قبسات من نور النبوة
حمد بن سعود الرمضاني
يأخذنا التحليق بأفكارنا في كثير من الأحيان لنعيش في زمن لم ندركه ولم نتعايش مع واقعه الحقيقي لحظة بلحظة، ولكن خبره الصادق العذب يستوطن القلوب، وصفاؤه الناصع ينساب زلالاً شفافاً تستوعبه العقول، وبلسماً تنزل أخباره لتهيج به الحواس وتملأ به الصدور.
تنقلنا سفينة أفكارنا إلى يوم مولده صلى الله عليه وسلم في بيئة قاسية تحيط بها أسورة من الجبال الصلبة المحصنة، وشعاب تتلوى بين جنبات أحضان تلالها المتعرجة، وجو يكتنفه حر الصيف المتعب الثقيل، قساوة قلوب أهلها وشدة بأسهم، تجعل العديد من أهلها لا يأنفون التجديد ولا يقبلون التغيير، ولو كانت هذه القلوب والعقول مقتنعة في قرارات نفسها بصدق ما يطرح لها من أفكار ومبادئ وخصال حميدة، إنها مكة وأهلها، التى حباها الله بأطهر بيت وضع على الأرض، وأشرف قبلة تتجه البشرية نحوها، مناجية ربها، ساجدة خاشعة منيبة لله خالقها، أرض استقطبت بين أحضانها الشعراء والأدباء والتجار وسادة القوم، في مواسم اختصت به هذه البقعة المباركة من أرض الله دون غيرها، ومما زادها كرامة وتبجيلاً مولده صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، حيث كانت مكة مع موعد لجيش جرار، وقطيع مدجج من الفجار، سولت نفس قادتهم لهدم البيت الحرام بقيادة إبرهة المتغطرس الجبار، ولكن قضت عناية الله ورعايته بالمحافظة على هذه الدار، بأن أنزل طيراً أبابيل تقصف بسهام طلقاتها من السماء على رؤوس وأجساد المعتدين، فتتساقط على إثرها الجثث ويهرب البعض الآخر منتفظاً مفزوعاً كالجرذان المبلولة التائهة، تبحث عن سقف يحميها وملجأ يأويها، إنها عناية الله تتجلى في المكان والزمان لنصرة بيته وتمهيداً للإحتفال الكبير لمولد سيد الأنام محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام.
تتزين مكة بأبهى حللها، لاستقبال أحسن مولود، وأفضل مخلوق على وجه البسيطة، سيد الخلق أجمعين، فتضيئ له الدنيا بمصابيح التقوى والإيمان، وتتزين بكسوة متلألأة من أنوار السماء الساطعة الدافئة، ينير الكون من مشرقه إلى مغربه بهالة من الضياء المبهر، ويتعطر الكون بعبير صوته الذي باشر الحياة من يوم مولده ليستوطن القلوب، وبشاشة وجهه الباسم قد حوى كل كائن حي بالأمن والآمان، والسكينة والاطمئنان، وتنساب نسائم بشرى قدومه بالهدوء والسكينة مخترقة الأوصال وتلامس القلوب، وتسمع الآذان، وتستوطن العقول والصدور، ليوم مكتوب موعود.
بمولده صلى الله عليه وسلم تتنزل المعجزات، وتنكشف أسراراً قد خبأها الباري لتكون براهين ساطعة، وعوالم شاهدة جلية، كمقدمة لنبوءة محتمة صادقة، وتمهيداً لجلي القلوب القاسية الصدئة، وإيذاناً بحياة جديدة تنبذ التقديس لغير لله الواحد، وإخراج الناس من التودد والتذلل لعبادة المخلوق إلى رقي عبادة خالق الخلق ومنشيئ الوجود.
يولد صلى الله عليه وسلم، ولم تتفتح عينيه إلى إشراقة وجه أبيه، الذي وافاه الأجل قبل ميلاد ولده الصغير الصبوح، حكمة أرادها الله أن تبقى حتى يرث الأرض ومن عليها.
يتربى عليه أفضل الصلاة والسلام في كنف أحضان مكة وضواحيها، وينفرد بنفسه بعيداً عن أعين الناس ليتأمل في ملكوت الله، يحتويه الإيمان بالله وهو صغير، تستوطن عقله الحكمة والأدب وفصل الخطاب، وتنزل عليه الرسالة وقد عرفته الناس بالصادق الأمين، فآمن برسالته من آمن، غير أن السواد الأكبر من الناس أعرض وتكبر، ولكنه ظل متمسكاً يرشدهم إلى الطريق الذي اختاره الله له دون تردد أو انهزام، وكان يقينه بالله كبيرا بأن يعلو شأنه ويبلغ رسالته، فيفتح له بها قلوب الناس، ويوصل الدعوة إلى الأمم والأمصار، إلى الحكام والمحكومين، ببدر جديد مشرق تسطع أقماره لتكشف عن أصداف غلفت بها قلوب البشر، وتحرير العقول من الشرك وتأليه الشجر، ولكن الطريق كان متعباً و شاقاً، سالت على إثره أطهر دماء، وسقطت جثث الشهداء، وتألمت أجساد غارت في خاصرتها السيوف والنبال والرماح. ورملت الحرائر من النساء، وهجر المسلمون عن أرضهم وديارهم. في سبيل أن تبقى الدعوة إلى الله خالدة مخلدة في قلوب العباد، يسري جريانها عبر قاطرات الزمن بين الأجيال، حية نظرة بصدق الإيمان، وهداية المعبود الرحمن، لتبسط الدعوة أذرعها وتشرق شمسها على العالمين، لتصل إلى مخلوقات الله من الإنس والجن إلى ميعاد يوم الدين.ء