سميحة الحوسنية
توضأ الفجر الحزين من سواقي الصباح الباردة .. وفي يده مسابيح ذاكرة تضئ سماوات النور، وفي المحراب تليت صلوات وعبادات.. ودموع تساقطت كقطع جمر في لحظات الخشوع والسجود .. تعلثم لسان الصباح .. وسالت دموعه، محيطًا أغرق مدائن الفرح ومراكب النور .. سجد الفجر باكيًا وأنامله تنسج من ضباب الحزن .. أكفان الفقد والآهات تقتطف الكافور وتنثر شذى العطور .. وعلى قبر الحببية وقف الحمام يحمل غصناً لايعرف الذبول ).
في صباحات شهر البركة والغفران وقد عطرت آيات القرآن والذكر أفواه العابدين وروحانيات رمضان تفعم الأجواء والذي استقبلته (الحاجة موزة) كعادتها بفرحة عارمة، وقد أضاء الوضوء سنا سجادتها القرمزية وحبات مسباحها اللؤلؤية .. ذاكرة شاكرة حامدة، فما أجمل صباحاتها العاطرة وروحها المتقدة حبًّا وجمالًا .. ما أجمل صفاء نفسها وحضورها الذي تميزه ابتسامتها وملامحها التي تزداد حسنًا كلما كبرت في سنوات عمرها .. فقد استجاب الله دعاءها ورضي عنها حين حبب خلقه فيها، فكانت الأم الحنون والجارة التي لاتقاس جيرتها بأطنان الذهب .. تتفقد جاراتها وتزور أرحامها ويفوح من أياديها البيضاء المفعمة بالخير سخاءً وإحسانًا.
نام الحمام الأبيض على سطح بيتها ليمضي مع نور صباحاتها المشرقة ينشر الحب والسلام الذي يخلد في طيبتها.
وفي هدوء صباح الصائمين وضجيج الأصوات التي تتعالى بقراءة القرآن الكريم لم يكن ذاك الصباح باسمًا حين شعرت (أم طلال) ببعض الآلام تغزو جسدها التي باتت تقاومها بالصبر والتحمل واستخدام الأدوية الشعبية والعقاقير الطبية بعد أن تسلل كورونا خفاء إلى عائلتها ليتجرعوا من كأس المرض ويومياته المتعبة ولتعش في ظلمة أوجاعه التي كثيرًا لا تبصر نور الشفاء، ومع مرور الوقت ساءت أحوالها الصحية، فغادرت بيتها الذي تصدعت أعمدته ولبس حالك الثياب .. لتبقى رائحة عطرها التي تنبعث من عباءتها المعلقة وسجادتها التي اشتاقت تقبيل جبهتها عند السجود. تم نقلها إلى المشفى بعد أن أتعبها (السعال).. وتمضي بها الأيام وهي تتمنى أن تعود إلى بيتها تهنأ بدفء أسرتها وتصوم ما تبقى من رمضان ولتبدأ تجهيزات العيد وشراء ما يلزم على موائد كرمها المعهودة.
مضت الأيام وتدهورت حالتها الصحية فنقلت إلى غرفة العناية المركزة تصارع الألم وزفرات الموت .. صمتت الأجهزة .. لتقف أسرتها خلف زجاج المشهد الأخير تتعالى صراخاتهم ويفعم الحزن قلوبهم.
فأتى الفجر الحزين حاملًا كفنها الأبيض مبللًا بالدموع لتودع حارتي المكلومة (الواسط) الحاجة موزة (أم طلال).. إحدى نسائها الخيرات الفاضلات.
فكم أفجع القرية خبر وفاتها.. فكان فجرًا حزينًا أطلَّ على أهلها وأحبابها.. صمت البحر، وهاج بكاءً على خطواتها المطبوعة على سيفه الملتهب الحزين.
وداعًا.. فلا قبلات يطبعها الولد على جبين أمه، ولا معانقة أخيرة تقتات بها الإبنة زادًا لأيام الفقد.. فكيف لأبي طلال أن يفارق سراج بيته الذي أطفأته (كورونا)، وسلب منه رفيقة دربه؟!. كيف لأولادها وبناتها أن تزهر أغصان الفرح في قلوبهم بعد هذا الفقد العظيم؟.. وكيف لنا أن ننسى تلك الطيبة النابعة من خلق حسن؟.
رحلت الحاجة موزة.. التي طالما ارتفعت لها الأيادي داعية المولى أن يطيل بعمرها ويشفيها من براثن كورونا القاتل.
رحلت (أم طلال) التي تشبه أمي – رحمهما الله – في سجاياها وهدوئها وابتسامتها إلى دار الحق والعيون تبكيها، والقلوب مكلومة بفراقها.
وها هي قريتي تشهد جنازة تلو الأخرى، وأوجاع دامية مفعمة بلوعة الفراق.. أرواح غالية تغادرنا بلا عودة .. أوصدت الأبواب ورحل الأحباب.
وداعًا وإلى جنات الخلد يا من كانت الحياة بكم تحلو روحًا وريحانًا.. ولأرواحهم الطاهرة السلام.