خطط لتصل إلى القمة
كاذية البيمانية
إن معظم الناس العاديين يعيشون أيامهم وشهورهم، ويمضون سنواتهم وأعمارهم بدون تخطيط، تمر بهم السنة تلو الأخرى، وهم في غفلة وسذاجة، يتحركون حركة روتينية، يصرون على العرف السائد لديهم، استبعدتهم العادة، وخضعوا للمألوف من الأعمال والإنجازات، وتحكمت فيهم الرتابة، فنجد في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من عدم فاعلية أعمالنا، فجزء كبير من وقتنا يذهب بدون فائدة وتحقيق أي تقدم مذكور، وذلك لافتقادنا للتخطيط السليم الذي يربط بين العمل والهدف.
وهذا ما أكده زيج زيجلار في كتابة “أراك على القمة ” حيث قال إنه كان يتمنى أن يقدم للناس الأشخاص الموهوبين والعباقرة والجذابين الذين قابلهم في حياته والذين يسعون دائماً إلى تحقيق “صفقة رابحة ” ومكسب سريع، إلا أنهم لا يبنون الكثير أبداً، لأنهم ليس لهم أساس متين-رؤية وخطة واضحة- يبنون عليه، بينما هناك آخرون لديهم أساس صحيح ولكن ينتهي بهم الحال إلى العيش في الدور السفلي أو إلى بناء حظيرة دجاج على هذا الأساس، لأنهم لا يتخذون جميع الخطوات اللازمة لاستغلال الموهبة التي يمتلكونها ليعيشوا حياة هنيئة أكثر ثراء، وآخرون لا يدركون أن الفرصة الحقيقة للنجاح تكمن داخل الإنسان وليس الوظيفة، وبالتالي نستطيع أن نصل إلى القمة من خلال الوصول إلى جوهر الأشياء، ومن ثم تسلق الدرجات بالتدريج، بالاعتماد على القرار والاختيار والتخطيط الصحيح وليس الحظ.
وذكر الدكتور صلاح الراشدي في كتابه (كيف تخطط لحياتك) الشخص المخطط يشبه كابتن السفينة الذي ينقل البضائع بين البلدان، فهو يمتلك الرؤية الواضحة عن رحلته، كما يعرف الموانئ الجديدة من غير الجديدة التي سوف يرسو عليها، ويعرف أماكن القرصنة، ومتى تأتي العواصف وكيف يتصرف معها في حالة قدومها، إلى جانب امتلاكه للمهارات الإدارية والفنية لتوجيه البحارة والتواصل معهم، بينما الشخص الذي لا رؤية له ولا رسالة له مثل القبطان الذي لا يدري أين اتجاهه ولا يتوقع ما الذي يمكن أن يواجه في البحر، وليس له دراية بآلية التصرف في المخاطر، فإنه في النهاية قد يتعرض للقرصنة وقد يخسر رجالة بسبب العواصف التي لا يعرف التصرف معها، كما أنه قد يصل إلى وجهة غير وجهته.
فالشخص الذي لا رسالة له ولا رؤية له معرض لهزات اجتماعية ونكبات مالية واضطرابات نفسية .. وهؤلاء يدركون هذا الكلام متأخراً، فكل يوم يمر عليهم محسوب عليهم، بينما صاحب الرسالة والرؤية كل يوم يمر عليه محسوب له فهو واضح في اتجاهه ومقصدة، فيكون الوقت لصالحه؛ لأنه كلما مر الوقت قرب من هدفة وتحقيق رسالته.
و ذكر الدكتور صلاح الخالدي في كتابه (الخطة البراقة لدى النفس البراقة) بأن الله خلق الإنسان هماماً، صاحب همة عالية، وإرادة قوية، وآمال وتطلعات متجددة، ونفس تواقة تنظر دائماً إلى الأمام، وتتطلع إلى ما هو أعلى، وكلما حققت هدفاً تاقت إلى هدف آخر، وكلما قطعت مرحلة تاقت إلى المرحلة التي بعدها، واستعدت لقطعها والوصول إلى محطة جديدة، فالإسلام بتوجيهاته يقوي هذه الخاصية في المسلم، وهي ” النفس التواقة”، ويربط نظر المسلم إلى ما هو أسمى وأعلى، وأدوم وأبقى، وهو الجنة ونعيمها، ويرتقي به الإسلام، ويرتفع بهمته وعزيمته وإرادته، ويثير الحماس والثبات والتحدي، والمواجهة في كيانه؛ ليسارع انطلاقه، ويقطع مراحله، ويقضي على المعوقات والعقبات التي تواجهه.
وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياته وسيرته العلمية قدوة ونموذجاً وأسوة حسنة لنا، ودعانا إلى الاقتداء به في كل أمورنا الحياتية، فقد كان قدوة لنا في التخطيط وإذا تحدثنا عن أحد الخطط الدقيقة والعظيمة للقائد النبوي، فنجد أن الهجرة النبوية مثالٌ عليها، فلقد عانى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أذى قريش الشيء الكثير، ورأى أن أرض مكة – بعد مرور ثلاث عشرة سنة – لم تؤت ثمارها المرجوة، بعدما رفضت خمس عشرة قبيلة دعوته، بل أقفلت في وجهه الأبواب، وعاش الاضطهاد والنكال، وقذِف بالحجارة، وأهين هو وأصحابه، وتضاعفت عداوة قريش له، حتى إنهم دبروا المكائد والمؤامرات للقضاء عليه وعلى دعوته قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ (الأنفال: 30).
فقرر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يهاجر إلى المدينة، وخطط لهذا الأمر تخطيطاً محكماً، تحرسه عناية الله تعالى وجميل تدبيره، ودار هذا التخطيط على اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب وحسن توظيف الطاقات، فقد عمل على وضع الإجراءات العملية لتنفيذ عملية الهجرة ولتحقيق النجاح المرتقب بإذن الله تعالى حيث وضع الخطوات التالية :
1- اختيار الصديق المناسب، القادر على إنجاح العملية، فكان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- الرفيق والمستشار المساند، وكان هذا دور الكبار.
2- تجهيز الوسائل الضرورية قبل الموعد بزمن كاف، لتفادي السرعة والارتباك الذي قد يحدث وقت التنفيذ، ولذلك جهزت الراحلة قبل الموعد بأربعة أشهر، وبسرية تامة.
3- إتقان دور المخادعة والمخاتلة الحربية، لضمان تحقيق المهمة بغير مفاجآت، فكلف علي بن أبي طالب بالنوم في فراش النبي – صلى الله عليه وسلم -، تمويهاً على المشركين ، وهذا دور الفتيان الأقوياء.
4- إشراك النساء في إنجاح الهجرة بما يناسب دورهن. تقول عائشة – رضي الله عنها – متحدثة عن نفسها وأختها أسماء: “فجهزناهما (أي: الراحلتان) أَحثَّ الجهاز (أحث بمعنى أسرعه. والجهاز: ما يحتاج إليه في السفر)، وصنعنا لهما سفرة (الزاد الذي يصنع للمسافر) في جِراب (وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه)، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين” البخاري.
5- تخصيص حيز للأطفال لإبراز دورهم في هذا الحدث العظيم، ويمثله دور عبد الله بن أبي بكر، الذي كان يتقصى أخبار قريش، وينقلها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه وهما في غار ثور.
6- تكليف الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار، ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه من لبن غنمه.
7- اتخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن أريقط دليلا عارفاً بالطريق ولو كان مشركاً مادام مؤتمناً، متقناً لعمله، ولذلك أرشدهم – بمهارته – إلى اتخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
8- وتبقى أعظم محطة في هذا التخطيط البارع، تهيئة التربة الصالحة في المدينة النبوية، لاستقبال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فكان لا بد من اختيار عنصر يجمع بين الكفاءة العلمية، والشجاعة النفسية، والجرأة الدعوية، والفطانة التواصلية، بحيث يستطيع أن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت المدينة، على أن تتم هذه العملية في غضون سن، فاختار النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذه المهمة الجريئة مصعب بن عمير، الذي يعتبر نموذجاً لتربية الإسلام للشباب المترفين المنعمين من أبناء الطبقات الغنية.
فاقتدى الصحابة والتابعون بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فكان التخطيط السليم هو أساس العمل بعد التوكل على الله تعالى وإخلاص العمل له، والبعد عن المحبطات والأخذ بالأسباب؛ فوصلت الفتوحات الإسلامية مشارق الأرض ومغاربها، فكانت إمبراطورية إسلامية عظيمة تهابها الدول الكبرى، وتترجى ودها وقربها .
إن غياب التخطيط يولد خسائر جمه منها غياب الوجهة التي نطمح للوصول إليها فيعيش الإنسان جاهلا لطبيعة المكان الذي يتواجد فيه وتتبعثر جهوده وينتج عنها غياب الحكمة في التعامل مع المواقف، وإن فترة العمل والنشاط محدودة في حياتنا لا تسمح بالانشغالات الفرعية التي تعيق التجديد والتطوير والبناء وحتى يتحقق هذه الأهداف فلابد من خطة واضحة ترسم الطريق وتقصر المسافة وزمن الوصول بعد التوكل على الله تعالى.
يوم من التخطيط ورسم الخطط سوف يوفر لنا الوقت والجهد وسوف يساعدنا على التصدي للعقبات التي من المتوقع أن تواجهنا في يومنا وتنفيذ أعمالنا، كما أنه سيساهم في التعرف وحصر الفرصة ومعرفة الإمكانات المتوفرة ويمكننا من القدرة على البحث عن البدائل الأسهل والأنجع في تحقيق الهدف وسرعة الوصول للوجهة، ما بقي لنا إلا أن نجدد العزم على البدء بالتخطيط وترك التسويف.