سميحة الحوسنية
على أوتار الناي الحزين انهمرت دموعها، فكانت شمعة تحترق لتضئ الحياة لأيتامها، ارتدت أيامها طرحة الفرح في ليال السعد وتوشحت بالسواد عندما عانقها الشجن .. هناك من يعيش الحياة بسعادة، وهناك من ترهقه الأيام بظروفها وأيامها الحالكة، وهناك أرواح تخنقها أيادي المرض بعنف على فراش السبات أو في غرف العناية المركزة.
هكذا كانت هي الحياة مع (بدرية) التي كانت مفعمة بالحيوية والروح المرحة وحب الحياة، فاللحظات لا تحلو إلا بوجودها، فهي تعشق الضحك والكوميديا.
لا أذكر لها موقفاً تراجيدياً البتة في صفحات الحياة بل كانت كالشمعة تضئ، وكالبسمة مشرقة على شفاة كل من يقابلها، وكانت تقطن عند جدتها في الحارة القديمة، وهناك عاشت بعض طفولتها الجميلة.
تزوجت (بدرية) عندما أنهت دراستها في المرحلة الثانوية، وسرعان ما فقدت زوجها في حادث سير أليم لتمطر عليها سحائب الحزن فصولًا من الشجن، فمضت بها الحياة تمزقها بصروفها حتى تجاوزت تلك الحالة النفسية التي عانت منها كثيرًا .. لتعود إليها ابتسامتها وضحكاتها التي بدأت تملأ المكان عند حضورها وتجمعاتها الكوميدية.
شاءت الأقدار أن تتزوج (بدرية) للمرة الثانية لتعود إليها الحياة بشكل آخر من زوج يكبرها سنًّا، ويعاني من مرض القلب ولديه أبناء، ولصفاء نفسها وقلبها الحنون عاشت مع تلك الأسرة بسعادة لمدة 14 سنة، وقامت بالاعتناء بهم كأبنائها احتوتهم أمًّا، فأحبوها كثيرًا حتى أصبحوا كظلها يرافقونها في الذهاب والإياب، وكثيرًا ما كنت أراهم معها عندما تأتي لزيارة والدتها (فاطمة) في الحارة.
مرت السنوات و(بدرية) تحلم بالإنجاب لتحمل بين ذراعيها طفلها المنتظر، ولكن لم يكتب لها الله ذلك .. فكانت اجهاضات الولادة متكررة حتى تسلل إليها اليأس لتعانقها فصول من الهموم وعواصف الانتظار. وها هي الحياة تخبئ ل(بدرية) محطات قاسية في حياتها لتكابد الشجون في فصل آخر من فصولها بموت زوجها الذي ترك لها ثلاثة أطفال أمانة لتعتني بهم ويعوضونها عن تحقيق حلمها في الإنجاب.
أعلم جيدًا بأنها قوية ولن تكسرها صروف الدهر، فكثيرًا ما كانت تتحدى العراقيل ومشكلاتها بالصبر والأمل بالله، وما زالت محتسبة .. صابرة .. وراضية بقضاء الله وقدره،
فكانت ترسم آمال الغد وتحتضن أبناءها الأيتام.
ومضت الأيام بسرعة البرق تحمل المفاجآت المحزنة لتلك العائلة، حيث أصيب جميعهم بالفيروس الذي تسلل إليهم في تلك الأوقات، فتوالت عليهم الأوجاع من كل جهة فكانت فترة صعبة في حياتها، فقد ساءت حالة أحد الأبناء كثيرًا، فلم يقوَ على التنفس، وتم نقله إلى المشفى، إذ كان يعاني بصعوبة في التقاط أنفاسه، وأخبرهم حينها الطبيب بأن حالته حرجة والأمل في شفائه ضئيل.
أصاب الهم بسهامه قلب (بدرية)، وقاست الكثير وهي تدعو المولى أن يشفيه لتدب الحياة والفرح من جديد في روحها.
ولكن مع مرور الأيام – ولله الحمد – كتب الله له النجاة ليعود إلى البيت بخير ليفعم قلب (بدرية) الحزين بالسعادة والشكر لله، ولكن لم تدم تلك الفرحة إلا أيامًا قليلة، فها هو الموت يغيب أخاه الآخر توأمه (أحمد) الذي كان يعتني به، فقد كان يشعر في بعض الأحيان بألم في صدره فلا يستطيع التنفس، وبالرغم من ذلك فقد كان اهتمامه كبيرًا بتوأمه الغالي (علي) وكان في حالة خوف وهلع على حالته .. لم يدرك بأن الموت قد اختاره .. وأن (كورونا) قد قطع شرايينه وفصلها عن قلبه عندما كان الليل يسدل وشاحه، واستسلمت عيون عائلته للنوم التي استيقظت في الصباح المكلوم على صراخ (بدرية).
لقد توفي ولدي (أحمد) في الفراش لتجثم تلك المصيبة العظيمة على صدر تلك الأسرة التي ما زال الحزن يدميها لفراق والدهم، لتكتب الأقدار قصة ألم موجعة في حياة (بدرية) التي توالت عليها الأحزان جملة واحدة.
أعدت عدتها للرحيل فلملمت حقائبها الحزينة تاركة بيتها، فكل ما فيه يذكرها بالفقيدين لتذهب إلى مكان آخر بعيدًا عن تلك الذكريات المؤلمة، ولتظل ابتسامة زوجها وعفوية طفلها (أحمد) صورة خالدة في الذاكرة.
أعانك الله يا (بدرية) وأثابك على تربية الأيتام فلك كل التحية .. ولروح الفقيدين السلام.