2024
Adsense
مقالات صحفية

حروف مبعثرة في غرفة العناية المركزة (8)

الأقمشة المزركشة بالموت

سميحة الحوسنية

لم تكن (عزيزة) تعلم بأن المنية ترفرف كطائرٍ كاحل الوجه فوق سطح منزلها، وقد جلدتها ألسنة الصيف الملتهبة وتساقطت حبات العرق تغسل أتربة الطريق من ملامحها المجهدة، وقد كمد لون وجهها وضاق حالها، فكم كانت الحياة قاسية بعد مرض زوجها (سعيد) الذي كان يعمل في مهنة الصيد وقد نال الحزن منها، فنذرت حياتها لتربية أطفالها الصغار، وعملت بائعة للمعجنات وبعض المأكولات الشعبية، وأبناؤها الصغار من حولها يساعدونها بدلًا من الدخول إلى دائرة العوز والسؤال ومد يديها على أرصفة التسول تستجدي عطف المارة تارة وتجاهلهم تارة أخرى، ومن أجل أطفالها وعزة نفسها كافحت في الحياة لتوفر لهم لقمة العيش… (عزيزة)، التي كانت لا تنام الليل، وهي تبكي من شدة الفقر وانكسار حالها، فأبناؤها لم يكن لهم نصيب في الإنضمام إلى المدرسة لعدم حصولهم على ألواح إلكترونية يدخلون من خلالها إلى منصة الفصول الدراسية، فهم 3 أطفال فكان من الصعب أن توفر لهم تلك الأجهزة، فهاتفها المحمول يكاد يلتقط أنفاسه من الكسر وأيادي أطفالها التي تتهافت عليه ليل نهار تبحث عن طفولةٍ مرهفةٍ تستمتع بالألعاب وجديد عالم التكنولوجيا.

كانت (عزيزة) خياطة ماهرة تقصدها النساء في الحارة القديمة التي تقطنها، الكل يعلم بحالة (عزيزة) وظروفها المعيشية الحالكة .. ذات مساء ذهبت إلى بيت والدتها المسنّة لتقوم بواجب خدمتها والتقت جاراتها اللاتي كنَّ يحملنَ أكياسًا من الأقمشة؛ لكي تقوم (عزيزة) بتفصيلها وبعض النقود، فكانت سعيدة، لذلك فتلك النقود ستساعدها على إعانة زوجها المريض وشراء ما يلزم البيت من ضروريات.

لم تكن تعلم (عزيزة) بأن تلك الأكياس تخبئ مفاجآت غير سارّة لحياتها وإنّ (كورونا) يختبئ بين أزهار وخطوط تلك الأقمشة المزركشة بالمرض، فأخذت تستمد من خيوط الظلام ألوانه الداكنة ومن ديسق الصباح ألوان الأمل لتحيك تلك الأقمشة، وكلما غلبها النعاس أيقظتها نغمات ماكنة الخياطة، لتتسامر مع أجفانها في ذاك الليل الطويل.. ولستعد في اليوم التالي لبيع المعجنات. وفي ذات اليوم شعرت (عزيزة) برغبتها في التقيؤ وبالتعب والإجهاد، فقررت ألا تخرج من بيتها؛ لثقل خطواتها وإرهاق جعلها تحتضن وسادتها لأخذ قسط من الراحة، فكان أطفالها يحيطونها بالرعاية، وعندما اشتدت حالتها جاءت أختها للاطمئنان عليها ومساعدتها، فأيقنت أختها بأن شقيقتها (عزيزة) تعاني من هذا المرض، فقررت الاعتناء بها وبعائلتها لحين شفائها بحذر تام، ولكن كان زوجها المريض (سعيد) الذي يعاني من فشل كلوي يعيش حالة من الحزن على حال زوجته فلم يستطع رؤيتها، تصارع الألم .. فكان يقوم بخدمتها هو الآخر، ومع الأيام -ولله الحمد- بدأت (عزيزة) تستعيد صحتها تدريجيًا ليعانق الفيروس زوجها (سعيد) الذي لم يتحمل شراسة المرض وباءت محاولاته للنجاة بالفشل، فالتهمهُ الفيروس فأصبح فريسةً سهلةً على طبق الغدر، لم يتحمل تلك الأعراض القاتلة التي كانت تسري كالسم في جسده، فتم نقله إلى غرفة العناية المركزة، ودموع أطفاله جمرٌ يحرق وجوههم لتعود (عزيزة) إلى رحلة الكفاح في الحياة ولتصرخ دقات قلبها خلف الزجاج بغصة وتقول: ليتني رفضت أن تعتني بي، فجسدك الهزيل يحمل أوجاع مرض وخزاته مؤلمة ومناعته ضعيفة، وأنت صاحب القلب الحنون ليتك أخذتني معك يا (سعيد).

هناك الكثير من الشخصيات التى تشبه (عزيزة) تجاهد على أرض الواقع نراها في محطات الحياة فهناك من سلب حقوقهم وأجبرهم على رحلة الكفاح..

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights