عندما تبتسم
مياء الصوافية
تتعالى الضحكاتُ ويعقبُها كُتْمانُ الأنفاسِ من شدةِ القهقهةِ هل هذا الانسجام التام والرضا الذي يُومض العينيين ببريقٍ حالمٍ قُرمزي الألوان،أم أنه خرج عن مدلوله الحاني إلى دَرَكاتِ الدَناواتِ؟.
غير أنك لو تفرستَ في اندماج معنى الحروف بين فَيْنةٍ وأخرى لعرفت بأنها قهقهة نرجسية ما عمت الأجواء بصهيلها إلا “إياكِ أعني وأسمعي يا جارةُ” .
لم لا يكون من الابتسام إلا معناه الحقيقي ألا وهو مبعث لجمع الصدقات ،وتوثيق حبال المودات؟.
فمعه تنشرح النفوس ،وتتبدد سَطوة الخَطَراتِ ،و تتجاذب القلوب بِلِيْنِ اللطَافاتِ ،وهذا ما أكده الإمام ابن عيينة إذ قال :”والبشاشةُ مصيدةُ المودة،والبِرُّ شيء هَيْنٌ:وجهٌ طَلِيْقٌ وكلام لَيْنٌ”
إذ أن مع الابتسام تغوص ألحان السعادة في أعماق القلوب فتَتَشَرَّب بالمودة ويُحَالُ سوادها إلى بياض وتشاؤمها إلى تفاؤل وتخْضَرُ معه جَوانِحُها ،وتخصب هِمَمُها ،وتتراقص ضلوعها كعودٍ مُدَنْدِنٍ ،و ما ريشته إلا هذا الابتسام .
وأعلم بأن السنين تتراجع معه إلى ما كانت ؛فتتورد الوجوه نضارة ،و يتجدد معه الشباب كما يجدد المعول خصوبة الأرض بتقليبها فتلتئم معه خُدُوْشَاتُ الزمن ناهيك أن الروح المرحة لا تشيخ وإن مد الزمان رَوَاقَهُ على أديم وجهها الطيني ؛فمع الابتسام تنسكب عليها برودة سعادة كبرودة غدران جبلية صافية تحت أفياء دوحات وارفة ،فتظل حيّة وتحيي من حولها بجداولها الحاضنة.
فليكن ثغرك هازجا ،ولسانك دَمِثَا ،و لا يكن معنى ابتسامتك إلا أناشيد سلام ،وليست قهقهات متطاولة تنكمش معها القلوب وترتعد الصدور ؛لهضم عزتها فترتسم خطوط الغضب في جبين الكرامة وتستدير الأعناق أَنْفَة وتخرج الأنوف زَفرات الضجر لتقول لك من أنت لتخرجني من قامة عزتي؟!
وذُكِرَ أن الابتسام أفضل من الضحك بأصوات عالية فعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال :”ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسما”رواه الترمذي
إن الابتسام معدٍ كما يقولون فطعمه اللذيذ تتذوقه معك شفتا من يناظرك ؛فتخمد من قلبه جِذا الشر وتتحول إلى مباخر وما دخانها إلا نسمات هذا الابتسام.
وكما قال الشاعر:
وإني لألقى المرءَ أعلمُ أنّه عدو وفي أحْشائِه الضَغْنُ كامنٌ
فأمْنَحَهُ بِشْرا فيرجعُ قلبُهُ سليما وقد ماتتْ لديه الضَغائِنُ
فمع الابتسام تذوب الضغائن لتغدو شيئا من سراب بِقِيْعَةٍ أو كَزَبَدٍ مُتَكَدِّرٍ يلفظه البحرُ الصافي .
وهناك من الأنام من يُجَمِّلَهُ الابتسام ؛فلا رُوْحا للمكان إلا به فكأنما هو عندما يَلٍجُ على العيون الكَاسِفَة غيثٌ انْصبَّ على مجرى وادٍ فاستبشرتْ به هذه العيون فتراه يأتي بالبسمة من لا شيء بحركات مُداعِبة لصغير أو حتى لكبير فترى الأعين مُصَوَّبَة نحوه والأفْواهُ تعلن تباشير ابتسامة فهو يزخرف المزاج غير المُنَمْنَمِ بٍمُنَمْنَمَاتٍ ساحرة لطيفة ويُحِيلُ بساط الجلسات إلى أجنحة تطير بك عن عالمك السجين إلى التفاتات الفرحة المَخْبُوءَة.
كثير مما قرأنا أن هناك فئة من الفقهاء أصحاب نُكْتَةٍ مُسْتَمْلَحَةٍ دون الخروج عن صحة الأحكام والفتوى وعُرِفَ بذلك الكثير من بينهم الإمام الشعبي*
فقد سأله رجل عن حَصى المسجد إذا ما وجدها في ثوبه أو خُفِّه أو جبهته ماذا يفعل بها؟
فقال له:ارمِ بها.
قال الرجل :زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد .
قال :دعها تصيح حتى يَنْشَقَّ حلقها .
قال الرجل:أولها حلق؟
قال:فمن أين تصيح إذن؟
فلْنُجَمِّلْ وجوهنا بالابتسام فلربما نُرَمِّمُ بها ما انْهَارَ في قلوب الآخرين.
*الإمام الشعبي هو:عامر بن شرحبيل بن عبد بن ذي كبار أبو عمرو الهمداني الشعبي، والمشهور بالإمام الشعبي 21/100 للهجرة وهو تابعي وفقيه ومحدث من السلف ولد في خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).