معادلة لم تكتمل..!!
هلال بن حميد بن سيف المقبالي
بعضٌ منا، إن لم يكن الكل يدرك أن الخلافات البسيطة بين الأخلاء في العائلة الواحدة لا تدوم طويلًا، إلا إذا رويت بماء الاشتعال، هذه النار لا تأتي من بعيد، وربما تكون من الأقرب بين المختلفين، هذه النار التي تؤجج الموقف ولا يهدأ لهيبها إلا وقد تغير مسار الخلافات البسيطة، إلى أن تصبح مشكلة عميقة الأثر بينهما، مسببة تعاسة حياة كلاهما، محدثةً شرخًا في العلاقةِ بينهما، وربما تمتد لباقي أفراد العائلة، و ربما تطول حتى للأجيال (أبناءَ و حفدة) ، مما يسيطر الشعور بعدم الراحة والهدوء في مكنون الأسرة، حتى في أحلا المواقف سيخيّم الغيم على الأجواء العائلية محدثًا خللًا في مجريات التعايش.
هذا ما أدركته عندما جاءني أحدهم في إحدى الليالي مكسور الخاطر، يندب حظه العاثر، تجمدت دموعه في محجريّ عيناه خجلًا من سقوطها، مكررًا ماذا فعلت بهم، لماذا هذا الكره الذي يكيلونه لي، كلهم ضدي؟
أخذت أهدئ من روعه قليلًا، وهو لا ينفك أن يتحسر على ما يكنه لهم من حب وتقدير واحترام، وما ضحى لهم في مسيرة حياته، كل هذا لم يذكروه، لماذا كل هذا النكران من الجميل، أهكذا جزاء المعروف؟
استمعت له كثيرًا، وفهمت منه كامل التفاصيل، وجدته محقًا فيما يقول، ولكن يبقى الأمر ناقص جملة وتفصيلاً، فالموضوع لا بد له من طرفين، سمعت الطرف الأول ويبقى الطرف الآخر، ولكن هذا الآخر لم يكن بتلك الجرأة، فقد تملص من اللقاء عدة مرات، ولم يبدِ للأمر أية أهمية، وحتى على الاتصال والرسائل لم يرد، هنا اتضح الأمر لديّ، وانفردت الكلمات، وأيقنت حينها أن المشكلة توغلت واضمحلت بينهما و أصبحت غورًا. فمعادلة الصلح وتقارب الأفكار و وجهات النظر لم تكتمل، وكيف تكتمل والأطراف تتنافر وكأنها قطبي مغناطيس؟، كيف سنجد حلاً لهذا الخلاف، والذي لا أعرف حتى أسبابه؟ لأني رغم محاولتي التقريب بينهما ، أجد نفسي في نفس الدائرة، والمرجح أن من أشعل الفتيل بينهما ما زال ممسكًا بزمام الأمور لتبقى نار الخلاف بينهما مشتعلة.
بنفس المشكلة جاءني يحمل في نفسه ألمًا وحرقة، بعد أن عرف من وراء كل هذا الشقاء الذي يعيشه، استمعت إليه، ولكن ليست لديّ القدرة الكافية التي تنصف هذا المنكسر، فكما ذكرت أن أقطاب المشكلة تتنافر كقطبي مغناطيس، وبهكذا تنافر معادلة التقريب بينهما صعبة أن تكتمل؛ ليتكرر معهما نفس المسار، فهذا لا حول له ولا قوة، و ذاك (الطرف الآخر) كعادته يحشد معه من يستمع له، و يؤيده دون وعي وإدراك، فقط ليكون هو المسيطر فقط، لا يفقه للظلم معنى ولا لعذاب الله حسابا، وكأن الدنيا حويت له، وكأن قول الله تعالى في سورة المجادلة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
لا يعنيه مطلقًا، ولا يسعى أن يكون أقرب للتقوى بل يسعى بالأثم والعدوان، وترك نار الخلاف البسيط مشتعلة.
مثل هذا وغيره من “الجراثيم البشرية” -إن صح التعبير- هدفهم فقط أن يفسدوا الود، ويفتكوا الحب، و يقطعوا أمتن ما يكون بين الناس من صلات، وتراحم، و تواد، وهذه الجراثيم للأسف منتشرة هذه الأيام وبكثرة فلم يُكتشف لها علاجًا حتى الآن؟.
واقع مؤلم حقًا، هذا ما سمعته منه، و ما يؤلم أكثر أن هذه الخلافات قد تؤثر سلبًا على العلاقات العائلية، و ربما تدوم طويلًا ليس لأنه لا يوجد لها حل، وإنما لأنها جاءت من عناد وتكبر، أو جاءت من تراكم مواقف، ظلت عالقة مع طرف دون الآخر، متصدرةً الموقف، مصرًا كلًا على موقفه، بدون وعي أو إدراك، وفارضًا رأيه للآخر ولو كان خطأ، و للأسف الشديد وجد المخطئ من يدعمه ممن يحبون تأجيج مثل هذه المواقف، وكأن المعادلة برمتها معركة لا بد من منتصر فيها، مهما كانت تداعياتها، ومهما كانت تبعاتها نفسية كانت أو معنوية و اجتماعية، المهم هو الانتصار ولو كان على ضلال، ربما كما يقال “تصفية حسابات” ليس إلا، وهنا يطغى الظلم في المشكلة بمضمونها الأساسي، والكبرياء والعناد والبعد عن الحق، كل ذلك يغذي هذه المشكلة بهذا الظلم.
بعد ما أخرج ما يضغط عليه هدأ أخيرًا، وهنا بدأت أكلمه وأهيئ نفسيته قليلًا، وبعدها أخبرته ناصحًا، بأن يكون تركيزه الأسمى على حل المشكلة، و ليس على المشكلة نفسها، لذا يجب عليك الوصول مع الأطراف الأخرى إلى حل يحلل الموقف و يعالجه، ليقطع على ذلك المتسبب طرق تطويق الخلاف، وبذلك يضع يده على أساس المشكلة، موضحًا مسببها وأسبابها، بعيدًا عن مبدأ النصر والخسارة، وتحديد المشكلة بالضبط للتّمكن من حلها. فشرح الموقف للآخر و الصدق في الطرح، والحفاظ على الهدوء، والاحترام والتقدير فيما بينهما، والمواجهة، بعيدًا عن الكبرياء، والغرور، والتمسك بالرأي -خطأً كان أو صواباً- سيساعدك ذلك على حل المشلكة، حتى لا تتفاقم المشكلة، وتؤثر على العلاقات الأسرية، وكذلك يجب التوصل إلى حل نهائي يمنع حدوث نفس المشكلة مستقبلاً وإذا لم تستطع فعل ذلك بنفسك، فعليك بتحكيم أحد من المقربين من الأهل والأصدقاء، ممن تثقون به، وكلاكما.
هكذا كانت آخر ليلة زارني فيها، ولم ألتقِ به أو أتلقى منه أي إفادة ماذا حدث، و هل توصل إلى حل وانتهت المشكلة؟ ، أو ترك الأمر كما هو متجاهلًا الوضع، مبرمجاً حياته كما يريد هو، مبتعدًا عن تلك النار التي تؤجج الخلاف، وبرغم تواصلنا المستمر بالهاتف لم أسله مطلقًا عن ذلك، و لم أتدخل في الموضوع بعد تلك الليلة، التي وجهت له الكلام ناصحًا، متيقنًا أن الأمر برمته مسألة شخصية ويخصه، أما أنا فجل ما أتمناه أن تكون المعادلة فيما بينهما قد اكتملت، وتصافت الأنفس وخمدت نار الخلاف.