الفائزون بشهر الصيام
خلفان بن ناصر الرواحي
يقول الله سبحانه في كتابه العزيز:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]
هذه الآية الكريمة افتتح الله فيها بـ {يَا أَيُّهَا آمَنُوا}، وابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين وحدهم وليس خطاباً عاماً لكافة الناس؛ لأنها سيقت للتكليف بأمر فرض عليهم القيام به، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة وهو الصوم، وكذلك جرت سنة كتاب الله في كتابه العزيز أن يفتتح الأوامر الخاصة بالإيمان بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج : 77] الآية، ونحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
أما الأوامر الاعتقادية فيخاطب بها بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، والسر في ذلك أن الفروع المتعلقة بالتكليف لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان، فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا، من باب التقوية الخاصة لهم، والمبالغة في الإخلاص بالعمل بها، فكأنه يقول لهم سبحانه وتعالى؛ إنَّ شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال.
فمن هنا جاء قوله تعالى؛ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أي فرض عليكم؛ فالصيام في اللغة هو: الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح، وفي الإصطلاح: الإمساك عن جميع المفطرات بالنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنيّة. فالصيام هو مدرسة الإيمان، ومرآة سلوك المؤمن، وشرعه الله لنا لتصفية مرآة العقل من كل ما يبطل إيماننا اليقين بأوامر الله والبعد عن نواهيه، وعن نوزاع النفس الأمارة بالسوء للبعد عن شهواتها، وهو بمثابة ترويض النفس بحبسها عن شهواتها، وإمساكها عن خسيس عاداتها، ولنتذوق لباس الجوع الذي يعيشه غيرنا فنعرف قدر نعمة الله علينا، وتهيج عواطفنا إلى مواساة الفقراء.
ولذلك فقد خصه الله له دون غيره في الجزاء والأجرٌ العظيم لمن أخلص نيته، وانقاد لأوامره سبحانه وتعالى واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أخصه سبحانه بأجور عظيمة، ومنها ما جاء بحديث نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))، والحديث ((كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به))، وحديث ((الصيام جنة))، فيا له من جزاء عظيم، ناهيكم عن أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة خير من ألف شهر، ألا وهي ليلة القدر. هل فعلاً كلنا ندرك تلك المعاني، ومن هم الفائزين بها؟
إنَّ مما يؤسف له أن هناك فئة تصوم عن الطعام والشراب فقط وليس لها من صيامها إلا الجوع والعطش، فيضعون تلك المفاهيم في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على الجميع، وهو خطأ يقع فيه البعض. فالصيام هو صوم الجوارح عن كل ما حرم الله ونهى عنه في حقه سبحانه وفي حقوق الناس عامة، فكيف تكون رائحة فم تقذّر بتناول الأعراض، والتمضمض بنحو الكذب والغيبة والنميمة، والفتك في أعراض الناس أطيب عند الله من ريح المسك؟! وكيف يكون صيام من استباح حرمات الله بالمعاصي وهو صائم أن يضاف إلى ملك الملوك جل جلاله ويتولى جزاءه بنفسه؟! وكيف يكون الصيام جنة ووقاية من عذاب الله، وقد ضيّع صيامه وتدنس بقول الزور، والتلبس بالآثام والعياذ بالله التي تهوي به في نار جهنم دون مراقبة الجليل والعمل بالتنزيل؟.
نعم لسنا بعالمين الغيب، ولسنا منكرين رحمة الله ولطفه بعباده، وندرك بأن لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم يعلمه اللطيف الخبير، ولكننا لا نظن أنه يبلغ في الميزان العدل مبلغ ثقل أوزارهم فيستحقون هذه الكرامات. فأين استحضار الإيمان المقرون بالتقوى لأمثال هؤلاء؟!.
ومما يعاكس حكمة الصيام أيضاً، ويهدم أصل مشروعيته، ما نراه من تصرفات من البعض، وخاصة في عصرنا هذا، فالسهر بالليل على مشاهدة القنوات للبرامج الهابطة والهدامة التي يتعمد تجهيزها للعرض في الشهر الفضيل، وكذلك تضييع الأوقات في اللهو باللعب أو المراسلات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة في أمور ليس بها فائدة أو منفعة، والبعض من ينام النهار ولا يحافظ على الصلوات المفروضة في وقتها إن لم يكن قد تمادى وتركها عمداً والعياذ بالله، ناهيكم عن الإسراف في الأكل بالليل، والتفنن في الأطعمة، ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون صورهم وأحاديثهم اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة للتواصل الاجتماعي، وإنه ليعظم عليك الأمر في الرجل أو المرأة الذي نحسن الظن بهم ونحسبهم من رجال الأمة الإيمانية المحمدية وهو يسوق لك تلك المشاهدات والتصرفات، ومصيبتنا العظمى أننا تركنا تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت بالشكر والتبجيل لرب هذا الكون البديع، ونسينا معنى الصيام وشرط التقوى الذي قرن بفرضيته علينا. وبلا شك إن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات وتحسين العادات.
نعم فالصيام مقرون بالتقوى، و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]؛ أي لتصيرون أتقياء بمراقبة الله في السر والعلن، فإن الصوم يقهر النفس ويكبحها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى، فالصيام جنة بالوقاية والسترة من المعاصي، وهو طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من رجس الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين، كما تتنزل فيه الرحمة ويضاعف فيه الأجر، وتفتح فيه أبواب الجنة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)).
ولكون الصيام أيضاً هو درس الانضباط والأدب والطاعة لله، وهو التربية للعبد على ترك المحرمات، لأنه إذا ترك شهواته ورغباته بالحلالِ، فهو أجدر أن أن يتوقى الحرام، فنسأل الله لنا ولكم أن نكون ممن ينالون ذلك الأجر العظيم، وأن نكون من الصائمين الفائزين، ونسأله تعالى أن يجعلنا ممن يُعظّم فضل وقدسية هذا الشهر العظيم بالتقوى، ويعيش مكرماته وفضائله لينال عظيم الثواب.