الفن كسلعة
بقلم : طيف أحمد المعمرية
ثمة دافع غريزي يمكن ملاحظته عند جميع البشر هو السعي للتميز عن الغير، إذ لا يمكننا إنكار دور هذا الدافع في تشكيل قرارات الإنسان التي تجعل من حياته على ما هي عليه، ولمجرد الاعتراف بوجود هذا الدافع نستطيع الإجابة على الكثير من الأسئلة المحيّرة لتفسير سلوكيات الناس. ولطالما كان ما نسعى لامتلاكه هو امتداد لهوياتنا وما نريد من الآخرين أن يعرفوه عنّا، لاشك أن أحد الأسباب التي تجعلنا نشتري منتجات معينة هي كونها وسيلة للتعريف بأنفسنا، فالأمر كالتالي: ما تشتريه يشكّل نمط حياتك، ونمط حياتك هو الجزء الظاهري من هويتك، وإذًا فإن الشعارات التي ترددها أدوات الإعلان من قبيل “أنت ما تشتريهُ” ليست كاذبة تمامًا. ومن هذا المنطلق أصبح الناس يحكمون على بعضهم بعضا بناءً على ما يمتلكونه، في عالم تسيطر عليه الرأسمالية، وأصبحت فيه النزعة إلى الاستهلاك وسيلة الفرد ليضبط إيقاع حياته ويشعر بالرضى عن نفسه.
وفي أحيان كثيرة نجد أن أكثر ما يؤثر في استهلاك منتج ما أو رواجه بين الناس هو قيمته، سواءً كان بسعرٍ مرتفع أو منخفض، لكننا لا نستطيع تعميم قاعدة واحدة تنطبق على جميع المنتجات بحيث تربط بين القيمة والاستهلاك.
بشكل عام تتحدد قيمة السلع بعدة عوامل منها ما تم إنفاقه في سبيل إنتاج هذه السلعة من جهد مادي أو معنوي، وكمية العرض والطلب في السوق، أو الظروف المصاحبة للإنتاج، وبحسب كبار منظّري الاقتصاد الكلاسيكي فإن قيمة أي سلعة ترتبط فقط بالعمل المطلوب لإنتاجها أو الحصول عليها، في حين تميل النظريات الحديثة إلى اعتبار أن السعر يتحدد من خلال مبدأ العرض والطلب[1].
غير أن جزءًا كبيرًا ممّا نصنفه كسلعة لم يتم إنتاجه خصيصًا للسوق كالأعمال الفنية، وعمومًا فإن ما ينطبق على السلع لا ينطبق بالضرورة على الأعمال الفنية فهي خارج تقييمات سعر السوق.
إن أهم ما يميّز العمل الفني بوصفه سلعة أنه غير قابل للتكرار، فمهما قُلّد العمل الفني يظل هناك عمل واحد أصلي صنعته يد الفنان. وبالتالي فإن الأعمال الفنية تكتسب تقديرًا أكبر لكونها نادرة ومتاحة لفترات قصيرة، وفي هذه الحالة يكون الطلب يتجاوز العرض بمراحل، ففي عام ٢٠١٥ فقط وصلت مبيعات الأعمال الفنية الأمريكية إلى ما يقارب ٦٤ مليار دولار أمريكي.
إضافةً لما سبق، يمكننا ملاحظة أن السلع العادية تزدهر أو تختفي بناءً على استهلاك المستخدم العادي لها، في حين لا يتدخل هذا “العادي” في تحديد قيمة العمل الفني.
إذًا ما الذي يحدد قيمة عمل فني ما؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب طرح سؤال أكثر أهمية : ما هو الفن؟ إن تعريف الفن هو سؤال أساسي في فلسفة الجمال، غير أن الإجابة عليه ليست بالسهولة التي تبدو للقارئ، بالطبع ثمة معايير لجودة العمل الفني لكنها معايير تقليدية سُرعان ما تم محاربتها، فمع ظهور الفن المعاصر أصبح بالإمكان اعتبار كل شيء بمثابة فن، بتعبير آخر فإن كل شيء هو عمل فني محتمل، فما كان قبيحًا ورديئًا في زمن من الأزمان أصبح اليوم فنًّا، إذ يرتكزالفن المعاصر بشكل أساس على استفزاز المتلقي وقلب المعايير القديمة،وبحسب الفيلسوف الأمريكي نيلسون جودمان [2] فإنه من الصعب تحديد ما هو فن بناءً على العمل نفسه ولكن الفن يتحدد بناءً على السياق الذي يُوضع فيه، فما الجماليات التي نستنبطها من مجرد مشاهدة صخرة مصمّته تزن 340 طنًا على مدخل متحف الفنون في لوس أنجلوس؟ بالأصح يجب طرح سؤال كهذا: ما الذي يجعل إدارة متحف مهم ونقادًا عالميين يصنفون صخرة على أنها فن؟
كتلة مرفوعة – متحف لوس أنجلوس للفنون
إن الحقائق التي يقدمها الفن تصبح تافهة إذا ما تم اقتطاعها من السياق [3]، فمثلًا لست بحاجة إلى قراءة قصيدة من الشعر الجاهلي لمعرفة أن فضيلة الكَرَم أسمى من صفة البُخل، ولست بحاجة حضور مسرحيات توفيق الحكيم لتفهم أن ما يتبقى من الإنسان بعد رحيله هو السمعة الطيبة. ولتحديد قيمة الفن يجب معرفة شكل هذه القيمة، فثمة فرق بين القيمة المتأصلة والقيمة الذرائعية، فالقيمة المتأصلة هي قيمة الشيء نفسه، فقيمة الطعام – على سبيل المثال- في كونه يؤكل، بينما القيمة الذرائعية هي قيمة ما يؤدي إليه هذا الشيء، ومنها يمكن القول بأن للفن قيمة ذرائعية، فأنه من خلال رؤية لوحة غرنيكا لبابلو بيكاسو يستطيع أن يرى المشاهد قصف غرنيكا في الحرب الأهلية الإسبانية من خلال عيون الفنان، وأن قراءة ملحمة جلجامش تتيح لنا معرفة التصورات الدينية لدى الإنسان القديم في بلاد الرافدين.
وإذًا هل يفسر ذلك النهم المتزايد لاقتناء الأعمال الفنية من قِبل الأثرياء؟
في الماضي كانت تجارة الفن تجارة انتقائية، موجهة لفئة قليلة تهتم بالفن وتفهمه، أما اليوم فأصبح امتلاك الفن أحد مظاهر الترف، فلقد أصبحت الأعمال الفنية أحد الأصول الرأسمالية مثلها مثل الأسهم والعقارات، وفي عالم يتداخل فيه الفن مع المال أصبح يُنظرللفنان على أنه تاجر يجب أن يلبي احتياجات السوق، ومع الطلب المتزايد على الأعمال الفنية أصبح الفن أقل جودة وأكثر رداءة. في حين أن هؤلاء الأثرياء نفسهم لا يأبهون بالفن أو الفنان؛ إذ إن عددًا كبيرًا من مقتني أعمال الفنان مارك روثكو هم أصحاب ثروات هائلة ، لم يعرفوا روثكو إلّا عندما وصلت قيمة العمل الواحد له ٤٠ مليون دولار[4].
مارك روثكو إلى جانب أحد أعماله
إضافة لما سبق فإن الأعمال الفنية تستخدم في حالات كثيرة لغسيل الأموال وللتغطية على الأموال المشبوهة، نظرًا لكون الأعمال الفنية تكون غير ملحوظة في النقل من مكان لآخر. كما قد يستخدم الأثرياء الجدد الأعمال الفنية كدعاية، لإعلان وصولهم لمراكز اجتماعية معينة ولفت نظر أصحاب الأعمال لهم.
في الحين الذي ينعم فيه مقتنو الأعمال الفنية بالثراء الفاحش، فإن الفنان بالكاد يستطيع تدبير لقمة العيش. إن عددًا ضئيلًا من الفنانين من يحظون بالتقدير وهم أحياء، غير العدد الأكبر منهم يعيشون على الهامش طوال حياتهم.
أذكر من هؤلاء الفنانين هنري دارجر، وهو فنان أمريكي عاش وحيدًا، فقيرًا، مريضًا، ومجهولًا، لم يتلقى التدريب، وعمل في وظيفة شاقة ولم يمتلك إلا عددًا محدودًا من الموارد، لكنه استطاع صناعة الفن من موهبة حقيقة وأدوات رديئة جمعها من حاويات القمامة[5]، وبعد رحيله عُرِف وأصبحت لوحاته تباع بالملايين في المزادات والمعارض.
في الحقيقة فإن الفنان لا يفكر كثيرًا بربح المال من أعماله الفنية، ذلك أن الفن غاية في حد ذاته، غير أن الفن يتعرض لضغوطات مستمرة من أجل أغراض نفعية، كتحسين سمعة شركات أو مجتمعات معينة[6].
ولطالما كان الفن شكلًا من أشكال الوعي، فهو إضافة إلى كل ما يقدمه للثقافة، يجعل الإنسان أكثر حساسيةً للجمال والعدل، وفي ظنّي أن أكثر ما يسيء للفن هو تلك النظرة النفعية التي حولته لسلعة، مثل أي شيء آخر.
بابلو بيكاسو – المرحلة الزرقاء
إن مجرد التفكير في أن الفنان قد يفني عمره في صناعة الفن والتضحية من أجله، ليصبح بعدها العمل الفني أداة استثمار في يد البرجوازيين وأصحاب المليارات، تجعلني أقف وجهًا لوجه مع سؤال وحيد : ما الذي تبقى من الفن؟
المراجع
[1] H.Wicksteed.(2009). Philip The common sense of political Economy. Dodo Press.
[2] Goodman. Nelson. (1976). Language of Art: An Approach to a Theory of Symbols. Hackett Publishing Company
[3] ستولنيتز ، جيروم .(2015). النقد الفني: دراسة جمالية وقلسفية. ت: فؤاد زكريا.المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
[4] سيمون دي پوري- رئيس مجلس إدارة دار فيليپس للمزادات
[5] لاينغ، أوليفيا.(2017) المدينة الوحيدة: مغامرات في فن البقاء وحيدًا.دار كلمات، الطبعة الثانية
[6] ستالابراس، جوليان.(2014). الفن المعاصر: مقدمة قصيرة جدًا. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.الطبعة الأولى