الهشاشة المجتمعية
عبدالله بن حمد الغافري
الرستاق
للتواصل /
@AbdullahHamedG1
أو
Alssedq@hotmail.com
الحمد لله خلَقنا إخوةً متحابّين، والصلاة والسلام على القائل (لايؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه) وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد اقتضت فطرة الله سبحانه وتعالى في عباده أن يطبعهم على الصلة والتراحم والتوادّ، وأن يجعل الإنسان مدنياً بطبعه متواصلاً مع غيره بفطرته.
وقد رتّب الخالق سبحانه من الأسباب ما يجعل الناس يتواصلون، حيث أن كل فردٍ مُحتاجٌ للآخرين من بابٍ أو أبواب متعددة كما يقول المتنبي:
الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ
بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
وقال جلّ في علاه: {أَهُمۡ یَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَیۡنَهُم مَّعِیشَتَهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضࣰا سُخۡرِیࣰّاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ}-[سورة الزخرف 32].
فالناس درجات، من العامل البسيط إلى الحاكم الوجيه، كلهم محتاج للآخَر، فكما أن العامل محتاجٌ للحاكم ليحفظ حقه ويحقق أمنه ويحميه من شر المعتدين، فإن الحاكم وذا الوجاهة محتاجٌ للعامل ليحرث أرضه ويصنع أدواته وكلّ حاجات الحياة المتعددة يقوم بها العامل أياً كان موقعه.
وقد كانت مجتمعاتنا تتميز بالأسرة الكبيرة المكوّنة من الأب والأم والجد والجدة والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، بل والعشيرة والقرابات الأخرى والقبيلة في أوسع نطاقها، وكان الفرد محمياً بقرابته مشمولاً بعنايتهم ورعايتهم في جميع الأحوال من سرّاء أو ضرّاء، ولكن ومع ظهور المدنية الحديثة وتشعّب حياة الناس وتعدد مصادر الرزق وتغير أساليب الحياة المرتبطة بالتقدم التكنولوجي والتواصل اللاسلكي الأثيري والانشغال بساعات العمل الطوال للحصول على مصادر الرزق المختلفة، واستقلال الأبوين في بيوتٍ منفردة عن العائلة الكبيرة؛ أدى ذلك كله إلى اعتقاد البعض أنه مستغنٍ عن باقي أفراد عائلته الكبيرة وأنهم (أي الأبوين) قادريَن على تسيير أمور حياتهما بطريقتهما الخاصة دون الحاجة للآخرين، وهذا بدوره أدى إلى اتساع الفجوة بين أفراد المجتمع وأدى إلى ضعف التواصل وقلة الزيارات، وانقطعت في بعضها الصِّلات مما نتج عنه ما يسمى ب (هشاشة المجتمع).
الاستقلالية والخصوصية مطلوبةٌ لجميع الناس، ولا شكّ أن لكل أسرةٍ خصوصيتها ولكل بيت أسراره، والمبادئ والقيم الإسلامية تقدّر ذلك وتحترمه، ولكن في حدود الهدف منها فقط ولا تتجاوز إلى حدّ الانعزال والتغييب عن الواقع الجماعي، ففي الحديث الشريف: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن! قيل من يا رسول الله؟ قال من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم ذلك) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وحديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، وفي رواية (فليكرم ضيفه) وفي عدم الأذى ( والله لا يؤمن من لا يأمن جارُه بوائقَه)! فكل هذه الأحاديث وغيرها ما يدل على وجوب التواصل بين أفراد المجتمع المسلم وأن يتعارفوا وأن يتعاونوا على البر والتقوى كما نص على ذلك الكتاب العزيز.
ناهيك عن الأدلة والآثار التي تبين حق المسلم على أخيه المسلم 1452- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشمِّتْهُ، وإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
لكن بدأت تتسرب إلى مجتمعاتنا عاداتٌ غريبة وأفكارٌ دخيلة لا تمتّ إلى الإسلام بصِلةٍ ولا إلى عاداتنا وتقالدينا، من ذلك: عدم التواصل واعتبار التواصل تدخلاً في شؤون الغير، وعدم السؤال عن الجار والصديق، وضعف المشاركة في الأعمال الاجتماعية العامة والخيرية منها والاتكالية إلا النزر اليسير.
بل ربما اتُّهم من فعل ذلك بأنه ما سعى لذلك إلا لأجل السلطة والحظوة والسمعة، فتعطلت بذلك مصالح كثيرة، بينما الإسلام يُرغّب بالعمل الجماعي والسعي لمصالح العباد، يرتب على ذلك الأجر العظيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسِرٍ، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مؤمناً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله، لم يسرع به نسبه) رواه مسلم.
فهذا نصٌّ شرعيّ واضحٌ وضوح الشمس في أهمية قضاء حوائج الناس والسعي لمصالحهم والثواب الجزيل الذي يناله الساعون لذلك.
وفي الحديث أن الساعي على اليتيم والأرملة كالمجاهد في سبيل الله وحديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)
فهذه الأدلة كلها تدلّ على أهمية التكافل الاجتماعي والتواصل المجتمعي وأن المسلمين جسدٌ واحد، كل لبِنة فيه تشدّ أختها في جدار العزة والمنعة التي أقرّها الله تعالى لعباده.
ومما يفهم من كتاب الله تعالى من ذِكر الصلاة مقرونةً بالزكاة في أغلب الآيات أن الصلاة عبادة تبين الصِلة بين العبد وربه بينما الزكاة عبادة تبين صلة العبد بمجتمعه كما في قوله تعالى: (وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُوا۟ مَعَ ٱلرَّ ٰكِعِینَ)
[سورة البقرة 43]
فلا يكفي للمسلم أن يخلد للعبادة والركوع والسجود لله بينما يضيّع واجبه تجاه مجتمعه.
يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آياتٍ مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير والحمد لله رب العالمين.