الظلم فى الصغر كالنقش على الحجر
د معاذ فرماوي
farmawima@alj.com
يهرول صابر من مدرسته متجاهلاً نداءات وتحيات زملائه رغبة فى الوصول للبيت سريعاً ليُبلغ أمه حصوله على المركز الأول فى اختبارات الشهر، فينساب بين الطرقات المؤدية للبيت مبتهجاً بهذا الإنجاز، يعدو ليمر من أمام السيارات المسرعة، يتوقف بعضها فجأة حتى لا تصطدم به، ولم يَسلم صابر من سب بعض أصحابها ووصفه بالمجنون.
تمنعه الأمطار الغزيرة وطين الشوارع من السير بشكل معتدل، يتوقف عدة مرات ليفكر كيف يجتاز هذه البرك المائية التي صنعتها مياه الأمطار، يتحايل كي لا يسقط فيها، يشعر بسعادة غامرة كلما اجتاز واحدة منها، ويتمنى أن يطير الخبر لأمه ويسبقه للبيت، ينزوي من آن لآخر بجوار حقيبته المتهالكة ليخرج منها شهادة درجاته الدراسية، وفي كل مرة يتأمل الدرجات درجة درجة ويقرؤها بصوت مرتفع ليسمع المارة ويشعرهم بأهميته.
وأخيراً يصل لبيته، تتسع خطواته لتطير به فوق درجات السلم وهو يشدو أنا الأول أنا الأول، ويدق الباب بشكل متتابع، تكاد أنفاسه أن تتوقف وهو يرد على أمه منتشياً أنا صابر افتحي بسرعة أنا الأول على المدرسة، ويجلس ليلتقط أنفاسه ويقول لأمه بصوت متقطع وعيناه تشعان فرحاً باركِ لي أنا طلعت الأول على المدرسة، تتجاهل أمه كلماته وتأمره بالذهاب لأخيه الأكبر بحجرة الجلوس فيسرع إليه ليقابله أخوه بصفعة قوية على وجهه تريد أن تسقطه أرضاً، لكن كرامة صابر وكبريائه يأبيان ذلك فيبقياه واقفاً، ولكنهما يفشلان في إيقاف نهر الدموع المتدفق من عينيه لتتبدل فرحته سريعاً بحزن وحيرة.
وما هي إلا لحظات حتى يهزم الحزن كرامته وكبرياءه ويشل تفكيره فيشعر أن رأسه ستهوي على الأرض، وتصبح ساقاه كأعمدة بيت متهالكة فيعتمد على الحائط ثم يهوي قلبه المكروب بجسده على الأرض، ويسمع أمه تشيد بأخيه سلطان وتشكره قائلة له حتى لا يتأخر مرة أخرى.
يمعن النظر في وجه أمه من خلال نافذة ضبابية كثيفة صنعها الحزن والألم من صفعة أخيه ليتذكر ما حدث الأسبوع السابق عندما زارهم خاله ومعه زوجته فنادته أمه وأوقفته أمامهما وبدأت تسأله عدة أسئلة وكلما أجابها انهمرت في ضحكات عالية ومستمرة، ثم تسأله سؤالاً آخراً لتعلو ضحكاتها أكثر بعد إجابته، وهو واقف في خجل وحيرة شارد الذهن وينظر إليهما منكسراً لا يدري سبب ضحكات أمه واستهزائها به، لتقتل كل ضحكة فيه ما تبقى من ثقته في نفسه، فلا يستطيع حتى أن يسألها لماذا تسخر منه، فتُعلق زوجة خاله قائلة أول مرة أرى أماً تسخر من ابنها لأنه ألْثَغُ، ليكتشف أن جميع أسئلة أمه كانت استدراج ليجيب بكلمات تُظهر أنه ألْثَغُ فى بعض حروفها لينهار ما تبقى لديه من قوة نفسية، وتتسمر عيناه ناظرة إلى فم أمه ويتذكر رصاصات الضحك والسخرية التي كانت تخرج منها لتغتال كرامته وتحوله لسخرية العائلة، فينفجر بداخله بركان من الصراخ ونيران من الحزن، ويتذكر كلام مدرسه اليوم وهو يخبره بأنه الأول على المدرسة قائلاً له لكني فوجئت بدرجاتك لأنك لا تجيب على أي أسئلة شفهية بالفصل، ودائماً منزوي بعيداً عن زملائك، فلم يستطع الرد، فكيف يخبره أنه يخشى من الكلام حتى لا يسخر منه زملاؤه كما تسخر منه أمه، وينظر إلى أمه نظرة خوف ممزوجة باستعطاف الذبيحة التي تستعطف الذابح قبل ذبحها، ثم تتحول عيناه إلى أخيه ليتذكر ما حدث الشهر السابق عندما أحضر له أبوه قطعة من القماش ليذهب بها إلى الخياط ليخيط له بنطالاً جديداً كما يحدث فى بداية كل سنة دراسية جديدة، لكن أخوه يأخذها منه ويعطيه بدلاً منها بنطالاً قديماً له ويطلب منه أن يذهب به للخياط ليعيد تهيئته ليصبح مناسباً له، ويحرمه من فرحة البنطال الجديد الذي ينتظره في كل عام دراسي جديد، فتعلو صرخات قلبه وتنفجر للخارج ولا يستطيع منعها، ويصرخ قائلا (ليه بتعاملوني كده هو أنا مس ابنكم) ، لتنهمر أمه مرة أخرى في الضحك قائلة: (مس ابنكم ولا مش ابنكم يا ألْثَغُ) ، لتعلو صرخاته وتدفعه ليهرب من البيت ويتبعه أخوه ويمسك به ثم يوجعه ضرباً على وجهه فيسارع هرباً منه ويختبئ تحت أحد أسرة النوم فتحضر أمه عصا طويلة تحاول بها النيل منه.
مرت هذه الأحداث بذهن صابر وكأنها تحدث أمام عينيه وهو يدير سيارته استعداداً للذهاب للعمل، فيأخذ نفساً عميقاً ويخرجه بقوة محاولاً أن يلفظ معه ذكريات طفولته الأليمة حتى لو لفظ روحه معها، هذه الذكريات التي حالت دون أن يتعامل مع أخيه ولو معاملة سطحية حتى في المناسبات الاجتماعية.
ورغم ذلك كان يبر أمه ويحسن إليها رغم أنها كانت شريكة لأخيه في تحويله لشخص محطم نفسياً وفاقداً للثقة في نفسه، وتأبى هذه الذكريات المكبوتة إلا أن تطارده كعادتها لتخطف ذهنه للماضي واحدة تلو الأخرى وتتسابق نحو تفجير ماض قديم ليطفو في منطقة الوعي لديه، وكم تمنى صابر أن يفقد ذاكرته كلياً كي يتخلص من هذه الذكريات المؤلمة، لكنها كالعادة تجهز عليه فيستسلم لها، ولم تخفف السنوات الطويلة من الاضطراب الذي يعانيه من هذا المزيج المؤلم من الصدمات التي ألمّت به في صغره فيلقي بجسده للخلف على كرسي السيارة.
حاول أن يهرب من هذه الذكريات القابعة بداخله، فأدار محرك سيارته ليوقف هذا السيل من الذكريات الحزينة لكنه شعر أنها تلاحقه فإذا نظر أمامه شاهد أمه وهي تسخر منه، وإذا نظر يميناً شاهد أخاه وهو يصفعه، وإذا نظر يساراً شاهد مدرسه وهو يسأله لماذا لا تجيب على أي سؤال شفهي، فيزيد من سرعة سيارته محاولاً الوصول لعمله سريعاً ليتخلص من هذه الكوابيس ليجد نفسه فجأة أمام الزاوية التيجانية وبلا ترتيب وكأن سيارته أرادت أن تدله على المكان الصحيح لعلاج مشاكله النفسية.
يقف أمام باب الزاوية فتتجسد أمامه كل هذه الأحداث مرة أخرى ليشعر كأنها سم قاتل يسري فى دمه، يتغير وجه صابر مرة أخرى ويجلس على رصيف الزاوية وتذرف عيناه دموعاً بطعم المهانة والانكسار، ثم توقف إرادة الانتقام دموعه ويتذكر حواراً دار بينه وبين أخيه الأكبر سلطان عندما سأله يوماً ألم تنس ذلك وقد أخبرتك مراراً أني كنت أفعل ذلك بأمر أمك، فرد عليه صابر قائلاً أنتما شريكان في جريمة قتلي نفسياً، ولن أنسى أبداً ثم يقول له (الظلم في الصغر كالنقش على الحجر).
ثم تلاحقه جميع الأحداث مرة أخرى لتنفصل به عن الواقع، يضع يديه على وجهه ليتفادى صفعات أخيه عليه، ثم يسد بهما أذنيه ليهرب من سخرية أمه منه، يتحشرج صدره وتزداد ضربات قلبه، وفجأة يظهر معتمد صديقه بالزاوية قائلاً له أخيراً ظهرت يا صابر هيا بسرعة سيدي صلاح لم يبدأ الدرس بعد.
ما إن دخل على الشيخ صلاح وألقى عليه السلام حتى قابله الشيخ بكلمة جعلته يقف مذهولاً حيث قال له الشيخ عليكم السلام سيدي صابر، نعم الظلم في الصغر كالنقش على الحجر ، ثم زينت وجهه المتلألئ نور إبتسامة هادئة وأكمل قائلاً : لكن الحب فى الكبر يذيب الحجر، فكن كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أٌوذي ثم عفا وغفر.
ثم قربه منه وقال له يابني: أفُعل بك كما فعل به؟ فيجيبه صابر من تقصد يا سيدي؟ فيقول الشيخ أفُعل بك كما فعل بسيدك رسول الله ؟هل أوذيت كما أوذي؟ فيقول لا يا سيدي ، فيقول له فلم لا تعفو كما عفا.
ويستمر الشيخ موجهاً حديثه له يا صابر أسعد رسول الله بعفوك عن أخيك، فيصمت صابر صمت الرافض، فيتهامس مريدو الشيخ مستنكرين عدم طاعة صابر له، فيشير لهم الشيخ أن يصمتوا، ثم يتجه لصابر قائلاً : يا بني هل سمعت أخاك يوماً يصلي على رسول الله؟ فقال له كثيراً، فقال له كيف تكره رجلاً ذِكر حبيبك يجري على لسانه؟ يا بني كما أن للذكر لذة لا تجدها في الغفلة فإن في العفو لذة لا تجدها في الانتقام، يا بنىي كيف يحمل قلب صوفي الكره لأحد؟ يا بني ما تعلمت الحب بعد ولا عرفته ، يا بني كيف تنعكس الأنوار الربانية على قلبك وقد طَمَست مرآته بكرهك لأخيك؟ يا بني معركتك مع قلبك وقد خسرتها فأعد لقلبك نوره بعفوك عن أخيك، يا بني ألم تعِ بعد ما تقوله في جوهرة الكمال (اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية)، يا بني ليس منا من لم يحمل الرحمة والعفو لكل الناس، يا بني أنت الخاسر فلا تغلق رحمة الله وعفوه فى وجهك، ألم تسمع قول الله :”وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ” [النور 22]، يا بني لا تدخل علينا بقلب كاره لأحد فتفسد علينا مجلسنا، فمذهبنا الحب، ولو شغلت قلبك بذكر الله ومحبته ما بقى به خلة تكره بها أحد، يا بني أتحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ، فيقول صابر وعيناه تدمعان نعم يا سيدي، فيرد عليه الشيخ إذاً أسعد رسول الله بعفوك عن أخيك، لتكون آخر كلمة نطقها الشيخ ظاهراً.
ثم يصمت الشيخ وينظر في عين صابر ويدور بينهما حوار بالأعين، يُحدق صابر بعينيه مستمعاً، والشيخ يلقي عليه بنظرات فيها لوم وتذكير ودعاء له، ويصمت الحضور منتظرين نتيجة هذا الحوار الروحي والذي ينتهي بنهر من الدموع تسيل من عين صابر رغم أن عينيه يتلألأن فرحاً، ثم يقول الشيخ هنيئاً لك يا صابر رضا رسول الله عنك، هيا افعل ما وافقتني عليه، فيسارع صابر بالاتصال بأخيه سلطان قائلا يا سلطان قد سامحتك وانقلب كرهي لك حباً، فعلم مريدو الشيخ أن هذا ما تم الاتفاق عليه بالحوار الروحي .
ويسأله الشيخ منذ متى يا بني وأنت معنا بالطريق، فيجيبه صابر منذ ثلاث سنوات يا سيدي، فيقول له الشيخ كنت معنا ولست منا واليوم أنت معنا ومنا، واليوم أنت مني وأنا منك.
يتهلل وجه صابر فرحاً ويعيد اتصاله بأخيه قائلا له اليوم سأتناول معك الغداء.
فيقول له الشيخ قم الآن واذهب لأخيك فمجلس ذكرك اليوم معه وليس معنا.