لتربية زنبرك التنمية
علي بن مبارك اليعربي
قبل أن ندخل في صلب الموضوع نقف متأملين عنوانه ..لعل من مفهومه نروي ظمأنا ، ويسيل لعاب فكرنا المتعطش لمعرفة علاقة التربية بالتنمية ولو تتبعنا النشأة الإملائية والتكوين الحرفي لهما لوجدنا تمازجا وتناغما لفظيا لكلمتي التربية والتنمية في المعنى و المفهوم لغة واصطلاحا وهذا يوصلنا إلى حقيقة مهمة ، فحواها أنه لا يمكن الوصول والثبات واستدامة التنمية دون التغلغل والغوص في أعماق النفس البشرية والوصول بها إلى جذور التربية لأنها أساس التنمية وركيزتها في وسطهما زنبرك أي شريط من الفولاذ طويل مقوَّس يُلَفُّ على محور الساعة ونحوها فإذا انبسط حرك دواليبها، كما يستخدم في النَّوابض ذَّاتيّة الحركة، أو الدَّفع ذو عدة طبقات من الشَّرائط المعدنيّة المرنة المجمَّعة لتعمل كوحدة واحدة هكذا وبصورة اعتبارية ما تقوم به التربية فعلا تجاه التنمية، فهي الزنبرك إذا ما انبسطت واتسع محيطها و بنيت على أسس ومبادئ وقيم أصيلة كان الإتقان حليفها تأديبا وتهذيبا للنفس البشرية، حرك ذلك دواليب التنمية وتحركت ذاتيا نحو الاستمرارية منطلقة بدوافع عدة، ووجدت لنفسها مسالك مرنة تعمل مجتمعة كوحدة واحدة لتصل في النهاية إلى التنمية المستدامة.
هذا ما استنبطناه من العنوان عندما تناولناه من منطلق الرسم الإملائي والتركيب والشكل والمفهوم والمعنى اللغوي فمن حيث الرسم يتألف كل منهما من حروف سبعة يتشابهان في خمسة منها، تربطهما ببعضها علاقة المعنى والمفهوم والنتائج بحيث سنجد أن دوام التنمية بما تجود به التربية.
ويمكن القول إن الفرق اللغوي بينهما بضع حروف والترابط في المعنى والمفهوم بالفطنة مألوف. لذلك بعدما لخصنا المقال كاملا من خلال قراءة العنوان والغوص في مكنوناته وبواعثه تعالوا بنا نستقرئ مضمون المقال من خلال كلمتي التربية والتنمية فهاتان الكلمتان هما وجهان لعملة واحدة أي متلازمتان تكمِّل أحدُهما الأخر. فإذا تطرقنا إلى ما تحمله التربية في طياتها من أسباب للتنمية واستدامتها، فالتربية كلمة شائعة التداول بين الناس في الحياة العامة ومارسها الإنسان منذ القدم لها مدلول ظاهر يدركه الجميع كقولهم فلان قليل التربية وفلان حسن التربية والأخلاق، وهذا الظن والاستعمال الشائع لكلمة تربية حيث لا يعني أن من يستعملها يدرك مغزاها جيدا. فغالبا ما يقتصر على الجانب الأخلاقي فقط. لذلك يبدو سهلا وفي متناول الجميع ولكن عند البحث عن المفهوم الشامل للتربية يتبدد هذا الاعتقاد وندرك تماما أن تعريفنا لها هو من قبيل السهل الممتنع، ذلك لأن معناها العلمي ومدلولها أوسع وأشمل مما نستعمله نحن كأشخاص عاديين في حياتنا. أما مفهومها ومدلولها العلمي مبني على أهدافها وأما المعنى الشامل والعلمي والمتداول للتربية هو تكوين وإعداد المواطن الصالح حيث يتم من خلال التربية تنمية الصفات المطلوبة والمرغوبة مثل الصدق، وحسن معاملة الآخرين واحترامهم، واحترام الوقت والالتزام بالمواعيد، والمحافظة على البيئة، وتحقيق الكفاية الاجتماعيّة، وتعليم الأفراد أصناف العلوم المختلفة لبناء شخصيّة الفرد وتكوينها بشكلٍ كاملٍ من جميع الجهات الشخصيّة والجسديّة والنفسيّة، وتحقيق التوازن بين جميع هذه الصفات. وتدريب الأفراد على السلوكيّات الجيّدة والقواعد السليمة في الحياة.
وبما أنّ التربية تترافق مع التعليم ممّا يزيد من قدرات الفرد في تحديد اتجاهاته ورغباته في الحياة مما يؤدي للاتجاه نحو العمل المرغوب به. من خلال غرس مفهوم القوانين والأنظمة في نفوس الأفراد وزيادة معرفتهم بحقوقهم القانونية وواجباتهم المختلفة. مع زيادة ثقة الفرد بنفسه ، وزيادة شعوره بالاستقلاليّة، ومساعدته على التكيّف مع البيئة المحيطة بإكسابه المهارات والمعارف والاتجاهات المختلفة ، التي تتناسب مع بيئته ومجتمعه ، وهذا بمثابة سياج وإطار للتنمية بمفهومها الشامل.
والتنمية هي عنصر أساسي للاستقرار والتطور الإنساني والاجتماعي، وهي عملية تطور شامل أو جزئي مستمر وتتخذ أشكالاً مختلفة تهدف إلى الرقي بالوضع الإنساني إلى الرفاهية والاستقرار والتطور بما يتوافق مع احتياجاته وإمكانياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتعتبر وسيلة الإنسان وغايته. فهي عملية معقدة شاملة تضم جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأيدولوجية بشكلها وإجراءاتها المعقدة والعمليات المتتالية والمستمرة التي يقوم بها الإنسان للتحكم بقدر ما في مضمون واتجاه وسرعة التغير الثقافي والحضاري في أي مجتمع من المجتمعات بهدف إشباع حاجاته. كما أنها تعد ظاهرة اجتماعية نشأت مع نشأة البشر المستقر فزاد الإنتاج وتطورت التجارة وظهرت الحضارات المختلفة على أرض المعمورة من خلال نشاط مخطط يهدف إلى إحداث تغيرات في الفرد والجماعة والتنظيم من حيث المعلومات والخبرات ومن ناحية الأداء وطرق العمل ومن ناحية الاتجاهات والسلوك مما يجعل الفرد والجماعة صالحين لشغل وظائفهم بكفاءة وإنتاجية عالية. وهذا جوهر العلاقة بين التربية والتنمية ، فإغفال جانب من جوانب التربية تتعطل كل جوانب التنمية وتتوقف عجلة التنمية فيها، وشواهد على ذلك كثيرة فعلى سبيل المثال- لا الحصر- الصينيون قديما عندما أرادوا حماية بلدهم من الغزاة بنوا سورا عظيما ما زال شامخا حتى يومنا وبعد اكتمال بنائه دخل الغزاة دون الحاجة إلى تسلقه حيث إنهم دخلوا من الأبواب والسبب انهم أغفلوا جانبا مهما حين أهملوا تربية النفوس، وتهذيبها فاستقبل ضعاف النفوس منهم الرشاوى، وسمحوا للعدو بالدخول.
– كما أن الولايات المتحدة الأمريكية عندما شعرت بتفوق الروس عليها أرجعت ذلك إلى ضعف المجال التربوي لديها فعملت زيادة الإنفاق لأجل تصحيح مساره.
– وفي اليابان هناك نموذج واحد فقط للتنمية حيث يتميز هذا النموذج بأسبقية العوامل الروحية والأخلاقية. بدونها لا يمكن تحقيق انسجام وترابط في النسيج الاجتماعي الذي تنجم عنه عملية التنمية. لذلك تجد الفرد في المؤسسة لديه انتماء مطلق لها يعمل وكأنها خاصة به.
لذا يجب أن نعي أهمية العنصر البشري فهو الركيزة الأساسية للتنمية. هكذا نقول: إن التنمية تعيش بالتربية وتتعايش معها وبدونها تفقد نموها واستمرارها ورغم أن الدول العربية راهنت عليها إلا أنها عانت منها لأنها أهملت القيم والهويات الثقافية الذاتية الخاصة بها. لهذا حصلت على تربية مبتورة، وتنمية قاصرة ومشوهة مع أنها تمتلك منهجا قويما لو اتبعته لأحدث لها تربية وتنمية حقيقيتان، -كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -، ولأن التربية هي أداة التنمية فكان لزاما علينا اتباع فلسفة مجتمعية للتنمية وما أرقى ما جاء به ديننا الحنيف من فلسفة عالمية! محققة للتنمية الشاملة المتوازنة تشتق منه السياسات والاستراتيجيات التربوية وخطط العمل وآليات تنفيذها، وهذا ما غفلنا عنه واختطته الدول المتقدمة، وابتعدنا نحن عن جوهر الدين وأخذنا قشوره، وأصبح همنا عنوانه نخطه في صفحاتنا، ووثائقنا الرسمية، دين بدون منهجه القويم، أفرغنا عقول أبنائنا منه ليس إلا وهذا – في رأيي- يعد من أهم أسباب تأخرنا.
-وخلاصة القول علينا أن ندرك جميعا أن الاهتمام بالتربية بأصولها هو ما يوصلنا تماما إلى التنمية الشاملة المتوازنة، بدونها لا يمكننا الوصول إليها مهما فعلنا لهذا قلت: إن التربية زنبرك التنمية.