الثقافة المجتمعية ركيزة أساسية لبناء المجتمع
هلال بن حميد المقبالي
لم يكن مجتمعنا سابقاً بذات الوعي العلمي الذي نشهده الآن ، فأغلب الأسر في عُمان كانت تفتقد إلى التعليم وإن وجدت فهي لا تتعدى 30 ٪، ولكن كان وعيهم الاجتماعي عظيم، قائم على تنظيم معيشتهم وتقويم سلوكهم، وتهذيب تعاملهم ، وإدراكهم بالمسؤولية أوجد لديهم ثقافة مجتمعية لازمتهم في شؤون حياتهم، والتي لازالت بعضاً منها خالدة رغم مرور عدة أزمان عليها. فالثقافة المجتمعية مستمرة إذا ما تم الحفاظ عليها،لأنها نتاج المجتمع من خلال ما يقوم به أفراده ويفكرون به خلال معيشتهم اليومية، وتعايشهم فيما بينهم ، فلا أحد يستطيع أن يغيّر ثقافة المجتمع كاملة بسهولة، أو تغيير هويته ؛ لأنّ الثقافة الاجتماعية يتم توارثها من قبل الأجيال، ولكن بعض من هذه الثقافات وللأسف قد لا نجدها الآن أو تلاشى بعضاً منها، أو دخلت عليها ثقافات خارجية أثّرت عليها بشكل أو بآخر، ولكنها عند البعض باقية، وهذا ما يميزها بالديمومة.
فالثقافة المجتمعية هي عبارة عن مجموعة من السلوكيات والقيم التي يتميز بها مجتمع دون آخر ، وربما يشترك في هذه القيم عدة مجتمعات مرتبطة مصيرياً بأقليم جغرافي واحد، ويتم اكتساب الثقافة المجتمعية من بيئة المجتمع من خلال تطبيق سلوكيات وعادات وأعمال وأقوال معينة وبشكل مستمر، مما يجعل الناشئة تكتسب هذه الثقافة منذ الصغر، وتساعد الأسرة كذلك في غرس هذه الثقافات من خلال التوجيه والنصح والتعامل فيما بينها بسلوكيات يتبناها الفرد منذ صغره.
كما تعتبر الثقافة المجتمعية من وجهة نظر المفكرين بأنها علاقة طردية بين مطالعة الفرد ورغبته في المعرفة ، وبين قوة وعيه الثقافي، فكلما اكتسب الفرد خبرات متنوعة كلما زاد وعيه الثقافي، وبضوابط معينة يحددها المجتمع، وترمز الثقافة المجتمعية لكل الأنشطة التي يقوم بها الأفراد بشكل خاص في المجتمع من عادات وتقاليد وأقوال وصناعات وسلوكيات، والتي ظلت مستمرة ومتواترة فيما بينهم وبشكل تراكمي عبر الأجيال، والتي لعبت دوراً هاماً في تطوره وانتقاله بين الفترات الزمنية المختلفة.
إنَّ من أبرز ما تمثله الثقافة المجتمعية ؛ هي العادات والتقاليد المتوارثة، والتي هي الأساس في ثقافة المجتمع من حيث التكوين الإنساني والجغرافي، لتكون هذه العادات والتقاليد قيماً يرتكز عليها بناء المجتمع والتعامل معها بسهولة ويسر، فهي حجر الأساس في تكوين المجتمع، وهذه العادات تدخل في صميم الحياة اليومية والعامة لأفراد المجتمع مثل الاحتفالات الدينية (كبداية العام الهجري، والإسراء والمعراج، والمولد النبوي، والعيدين الفطر والأضحى)، واحتفالات الأعراس، وتقديم واجب العزاء، والاحتفال بالمولود، وإكرام الضيف، ومساعدة المحتاج، والدفاع عن الأرض وحماية المجتمع، وغيرها من العادات التي كانت تكفل الجانب الاجتماعي والإنساني والاقتصادي، والتي تمثل التكافل التام الذي يملئه المحبة والعطاء، والتي كانت تعتمد على البساطة في الكيف والكم، مسخرين قدراتهم وإمكانياتهم في أدائها، بحيث أصبحت المبدأ الأساسي للتعايش وتنظيم المجتمع، وقد صاحب هذه العادات والتقاليد قيم إنسانية محمودة، والتي بنى عليها المجتمع سياسة التعايش في يومياته وأعماله، ومن هذه القيم ( التعاون، صدق التعامل، الأمانة، المحبة، الإخلاص، الوفاء ،حسن الجوار، واحترام وتقدير الآخر)، ولكن للأسف الشديد تغير الحال مع تطور المدنية، فأخذت بعض هذه العادات والتقاليد منحناً آخرا عما كانت عليه وتلاشت بعض هذه العادات، ودخلت عليها سلوكيات غريبة، وأخذت بعضاً منها طابع السرف والترف والمباهاة، وضيّع من قيمتها وجمالها، والدلائل عليها عديدة كحفلات الأعراس ومراسم العزاء، والمبالغة في الحفلات الأخرى، وبعض السلوكيات الدخيلة كنوعية اللباس وقصات الشعر وغيرها؛ والتي أبتعدت في أغلبها عن قيم مجتمعنا السائدة، وهناك العديد منها لا يسع المجال لذكرها، فالقاريء للمقال والباحث في الموضوع يدرك مدى هذا الاختلاف، وما صاحبه من تبعات قد أثرت على التكوين المجتمعي، وربما أوجدت فجوة ستتسع إذا لم نتداركها. كما أن الثقافة المجتمعية لا تقتصر على العادات والتقاليد وحدها ؛ بل تشمل جميع الحرف التقليدية والصناعات الحرفية، والتي كانت الداعم الأساسي لتكوين الركيزة الاقتصادية في بناء المجتمع وتطوره المعيشي، وتكافله الاجتماعي وكل ما يتعلق بالنواحي الحياتية اليومية، وربما قلة الاهتمام بهذه الحرف أو تركها لصالح الوظيفة، أصبح من النادر وجودها في بعض المجتمعات والتجمعات السكانية.
فالثقافة المجتمعية هي ثقافة مكتسبة، ومتراكمة عبر أزمنة مضت استمدت قوتها من خلال التعايش المجتمعي، بمباديء وقيم تنظم سلوكياتهم لما لها من أهمية في تنظيم المجتمع وعلاقتة بالآخر، واندثارها يعني انهيار لمنظومة البناء المجتمعي، ويأتي اندثارها من خلال دخول ثقافات غريبة وسلوكيات مختلفه، بعيدة عن واقع مجتمعاتنا وتكوينه ، وربما يؤدي انحصار الثقافة المجتمعية بين النشأ إلى زيادة في التخلف الأخلاقي، والوعي الإدراكي لدى أفراد المجتمع، مما يسبب ظهور بعض السلوكيات الخاطئة ، كزيادة نسبة الجرائم، وأقربها للواقع مثلاً جريمة السرقة.
ومن هذا المنطلق فلابدّ من أن تقوم الحكومة والمجتمعات والأسر، بالحفاظ على الثقافة المجتمعية السليمة، والتخلّص من الثقافات الغير ملائمة، من خلال عرض وسائل تعليميّة للجيل الجديد تحثّهم على الإصلاح والحفاظ على العادات والتقاليد، والاهتمام بالجانب التربوي والتعليمي والأخلاقي، وزرع المباديء والقيم الإنسانية والإسلامية، ورفع مستوى الثقافة العامة لتحسين مستوى الثقافة الاجتماعية، مما سينتج جيلاً واعياً ذو أخلاق عالية وتعامل راقي وبهمة عالية، وليكونوا فاعلين في بناء المجتمع وسداً منيعاً لحمايته من غزو الثقافات الخارجية الهادمة، التي ينبذها المجتمع.