“فواتير” .. مؤجلة الدفع
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
تقتضي الحياة منذ أزليتها المعتادة، ووفق قوانينها المختلفة، وصيرورتها المعتادة، ونسق تفاعلات الناس فيها، أن تكون لحركة الناس فيها محطات مهمة، ومناخات متعددة، يأتي هذا كله؛ هكذا بصورة تلقائية تتوغل في حركة الحياة ذاتها، دون أن يكون للإنسان يد فيها في بعض الأحيان، وفي كثير من هذه الأحيان تكون اليد طولى، فالإنسان كما هو مسير بالضرورة، يكون في الوقت ذاته مخيرا في مساحة أفقية ممتدة من حياته، امتدت هذه الحياة أو قصرت، ويقينا من تمتد حياته يكون تراكم هذه الـ “فواتير” أكثر وأكثر.
هناك أناس ينتصرون للحكمة في كثير من جوانب حياتهم (ومن أتي الحكمة فقد أتي خيرا كثيرا) وبهذه الحكمة يستطيعون تقليل عدد الـ “فواتير” ولذلك ينامون مأمونين الجانب، قريرون العين، ويظلون قلة في عدد الناس الكثر في هذه الحياة، ومن المعروف أنه كلما كبر العمر كثرت هذه الفواتير، وهناك من يعول على الخبرة في الحياة في تقليل هذه الـ “فواتير” وحتى هذه “الخبرة” مربوطة بعوامل أخرى بعضها مادية، وبعضها الآخر ظروف طارئة، وبعضها الثالث التسويف والتأجيل، وانتظار الغد، لعله يأتي بالجديد، والزمن في دورته المعتادة السريعة لا يخضع لكل هذه، وإنما يظل منطلقا بسرعته المنتظمة، فإن استطاع هذا الإنسان أن ينظم أموره وفق صيرورة الزمن؛ فأهلا وسهلا؛ وإلا أسقط نفسه في خندق الـ “فواتير”.
ومن هذه الـ “فواتير” الصحة، والمال، والأسرة في حجمها المتكامل، وفي جزئياتها المختلفة من الولد والزوجة والاخوة والأخوات وقبلهما الوالدين، وما يتبعهما من ذوي القربى، ويضاف إلى ذلك مختلف العلاقات التي تربط الفرد مع من حوله، وما أكثرها بدءا من علاقات الزمالة – كطالب – ومرورا بعلاقات العمل – كزميل – ووصولا الى العلاقات الاجتماعية – الجار والصديق – وقس على ذلك أمثلة كثيرة، ففي كل هذه المناخات العلائقية تحضر الـ “فواتير” كمحدد مهم في هذه العلاقات كلها، وليس جلها، فهناك حقوق يجب أن تؤدى، وهناك واجبات يجب أن تنفذ، وأي خلل في كلا الطرفين، الحق والواجب، تتراكم الـ “فواتير” بصورة غير عادية، ولذلك عندما يفيق أحدنا من غفلته، ويرى هذا الكم الهائل من الـ “فواتير” المؤجلة الدفع، يصاب بالدهشة، وربما بالصدمة، وهناك من ينهار، خاصة عندما تحوطه مختلف الـ “فواتير” من كل جانب فتغلق أمامه كل الطرق.
يظهر تأثير هذه الـ “فواتير” أكثر ما يظهر عندما يبلغ الإنسان من العمر عتيا، حيث تقل الحركة، ويهن الجسم، وتتراجع الحواس، وتتقلص حركة الأطراف، عندها تأتي المراجعة في كل ما ذهب وولا، وهي مراجعة قاسية؛ حيث تغلفها الحسرة والندم على كل ما فات، وتأثيرها شديد على النفس؛ حيث الغبن لأن التعويض مستحيل، أو صعب، وهي بلا شك مراجعة متأخرة، فقد ضعف كل شيء، فليست القوة هي القوة، وليس العزيمة هو العزيمة، وليست الإمكانيات (المادية والمعنوية) هي الإمكانيات، ينفر منك القريب قبل البعيد، ويخاصمك الصديق قبل العدو، عندها أكثر ترى أن الـ “فواتير” كثيرة والتخلص منها شبه مستحيل، وهذا ما يؤزم من شأن الحالة النفسية، على وجه الخصوص، لدى أناس كثيرون.
هل يمكن التخفيف من وطأة هذه الـ “فواتير” على امتداد فترات أعمارنا المتتالية؟ أجزم نعم، ومن ذلك من خلال الوقوف في منتصف المسافة، حيث لا نحمل أنفسنا فوق ما تطيق، ولا نفسح لها مجال التحرر المطلق في كل هذه الجوانب، فلا افراط؛ ولا تفريط، ومتى استطعنا التموضع عند هذه الوسطية، أجزم؛ أنه بإمكاننا سعداء إلى حد ما، حيث لا ضرر، ولا ضرار.