التقاعد وعقدة المفهوم
علي بن مبارك اليعربي
منذ أن تواردت أنباء عن صدور قرار إحالة كل من وصل مدة شغل وظيفته ثلاثين عاما إلى التقاعد تضاربت الآراء حول هذا الموضوع بين مؤيد لهذا الإجراء ومعارض له، واختلفت المشاعر وتباينت الأحاسيس عند من يشملهم القرار،فالبعض استقبل الخبر بالفرح والسرور ، والبعض استقبله بنظرة تشاؤمية وسلبية من منطلق شخصي معتبرا القرار لم يراع الالتزامات المادية لمن يشملهم. كما تخوف البعض من ضعف الإنتاجية بسبب فقد الخبرات الميدانية بعد مغادرة تعيينات سنة 1989 وما قبلها، وتغافلوا خبرات ثلاثين عاما لا زالت موجودة في ميدان العمل والعطاء.
ولا أخفيكم سرا بأنني من بين أولئك الذين سيتأثرون نفسيا من التقاعد ليس لأنني ممن يعتقد بأنه النهاية، فالتوقف حتمية لا محالة منه، بل لأنني سأخرج قبل الانتهاء من الإعداد الأكاديمي لمرحلة ما بعد التقاعد ، وهذا ما يؤرقني كثيرا وما سوف أسعى إلى التأقلم والتكيف معه حتى لا أعاني من الاحتراق النفسي .
وجميعنا، المؤيد لهذا الإجراء والممتعض منه، كنا ولا زلنا نطالب بتعيينات جديدة لأبنائنا الباحثين عن العمل في مختلف التخصصات، فنحن نراهم صباحا ومساء ونتحسر على أيام وسنين الدراسة التي قضوها لتحقيق طموحات وتطلعات أسرهم في أن يكون لهم دور ريادي بالمشاركة في تنمية مجتمعهم.
ألم نسأل أنفسنا كيف لنا أن نوجد شواغر لهم في سوق العمل وميادينه؟! مع العلم بأننا جميعا نريد تعيينهم في الوظائف الحكومية. ألم تسعفنا خبراتنا بالنظر إلى سعي كثير من الدول المتقدمة في ظل التقدم التكنولوجي وإحلال التقنيات الحديثة بدل الإنسان وأصبح ما يقوم به مجموعة من الأفراد تنجزه الآلة في فترة وجيزة وتحت إدارة فرد واحد فقط مما يقلل الشواغر في الدوائر والمؤسسات الحكومية منها والخاصة. كما أن هناك أمر يجب علينا ألا نتجاهله وهو ما يمر به العالم من ركود اقتصادي في ظل جائحة كورونا وتوقف شبه تام للأنشطة الاقتصادية وانخفاض في أسعار النفط العالمية وأزمة الباحثين عن العمل في بلادنا الحبيبة، وهذا كله يجعلنا موقنين بأن ما تقرره حكومتنا الرشيدة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – يحفظه الله ويرعاه – من إجراءات تضمن الحفاظ على التوازن الاقتصادي وتقلل الآثار المترتبة على المستوى المعيشي للمواطن.
لذا علينا أن نسلم بأن النظام الجديد للتقاعد هو ضمن إجراءات التشغيل والتوظيف للباحثين عن العمل من أبنائنا وهو ما يسمى بالإحلال وهو إحدى الأساليب المتبعة في مختلف دول العالم المتقدمة منها والنامية في إيجاد الوظائف والشواغر لتلك الفئة لخلق التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد.
وما تلك الهواجس والمشاعر التي تنتاب الكثير منا تجاه هذا الإجراء إلا من جراء ذلك الفكر والمعتقد والمفهوم الخاطئ الذي يحمله بعضنا عن التقاعد وتؤكده النظرة العامة للمجتمع وهو الجمود والتوقف عن البذل والعطاء وبأن المتقاعد قد يفقد جزءا من شخصيته الاعتبارية التي صنعتها له تلك الوظيفة وبأنه سوف يخسر مكانة كان يحظى بها. والاعتقاد اللاعقلاني هو الجزم بأن صلاحية المتقاعد قد انتهت،وكأن من راهن عليه هو آلة تعمل بنظام الضبط والتشغيل وليس إنسانا يعمل بإرادته الذاتية ويكتسب من الخبرات ما يؤهله للاستمرار في البذل والعطاء في ميادين أخرى .
فهذا المفهوم المفتعل من قبل بعضنا هو ما يصور لنا صعوبة الوضع القادم وأطره،والذي تحيط به هالة من الحزن والخوف والاكتئاب والنظرة التشاؤمية، وهذه الآثار هي عبارة عن رؤية نفسية مرتبطة بذات الشخص ومدى استعداده للمرحلة القادمة من حياته سواء الاستعداد المادي أم النفسي أم الاجتماعي، فهي لا تمثل مشكلة نفسية وحسب وإنما تضعف الاستعداد والإرادة وتؤدي إلى جمود الفكر،
وإلى الانفعال السلبي لأبسط الأمور وعدم التقبل والرضا عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي نتيجة رواسب الاعتقاد بصوره القاتمة التي يشاهدها من يشمله القرار أمامه و بين أقربائه ومعارفه و محيطه تجعلنا نخشى هذه اللحظة التي سنصل إليها في المرحلة القادمة حتى أنهم يجزئون كلمة متقاعد تندرا منهم لتصبح ” مُت قاعدا” تعبيرا عن معاناة المتقاعد النفسية لشعوره بالرفض قبل أوانه من المجتمع، لذلك يسعى البعض ممن ينظرون بهذه النظرة السلبية إلى طلب التمديد في العمل ولو من دون أجر أما البعض الآخر فإنه يصاب بحالة اكتئاب شديدة لإحساسه بأن ما حصل له هو نهاية العالم وأنه ابتلي بمصيبة كبرى فاقت كل التوقعات.
لذا عليك عزيزي القارئ المتقاعد أن تتجاهل تلك الأوهام وتعمل على صياغة المرحلة القادمة من حياتك وتحدد أدوارك فيها حسب إمكانياتك ومجمل خبراتك على مدار سنوات العمل، فبهذا فقط ستمنح نفسك فرصة الانسجام والتناغم لمعرفة مدى قدرتك على استثمار خبراتك وتجاربك طوال مراحل حياتك، وستدرك بذلك حينها بأن مرحلة التقاعد لا تشير إلى توقف العطاء وإنما إيذانا ببدء مرحلة أخرى من العطاء، وذلك من خلال التكاتف والالتفاف حول قيادتنا المتجددة بجعل بيوتنا ومجالسنا وأنديتنا وتجمعاتنا المختلفة بيوت خبرة نمد أبناءنا بأفكار وخبرات ناضجة تساعدهم على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم. كما يجب علينا جميعا استغلال تلك الخبرات والكفاءات المهنية المختلفة بوضع إستراتيجيات وخطط لإنشاء مشاريع اقتصادية مشتركة تفتح مجالات اقتصادية أخرى وتنويع مصادر الدخل واستثمار المقومات الطبيعية وإيجاد فرص عمل أخرى للباحثين عن العمل وعدم الاعتماد على مصدر النفط فقط.
وخلاصة القول علينا أن ندرك جميعا بأن مرحلة التقاعد هي مرحلة التجديد و الاستمتاع بنمط حياة يتجدد فيها البذل والعطاء والإسهام بمجالات تسعد نفسك والآخرين من حولك، فأنت لازلت {حي قاعد} و تؤدي رسالتك مستغلا مهارة وخبرات السنين في الحياة ومجالات العمل في الحصول على تقدير الذات وتقدير المجتمع. والثقة بالنفس مصدرها البذل والعطاء، فبها فقط تهدأ النفس وتسمو وترتاح.