2024
Adsense
مقالات صحفية

الأبواب المؤصدة

هلال البدوي
كاتب ، وباحث قانوني

مارست الكثير من الإدارات التنفيذية بمختلف شرائحها الوظيفية ممثلة بالجهات والمؤسسات في العديد من الدول لا سيما شرائح الإدارة العليا استحداث سياسة فكرة الأبواب المؤصدة ، وأن المتلقي لفهم هذا المعنى غير الظاهر للعيان على سطح الاحداث باعتبارها من المفاهيم الغامضة لاختلاف التعدد في طبيعتها وأنماطها من إدارة إلى إدارة ومن شخص إلى شخص آخر ، ولكون هذا المفهوم الأكثر إثارة للجدل حيث أنه لا يوجد اتفاق على تعريف محدد له ولا لابعاده ، ناهيك عن التشابك مع عدد من المفاهيم المستخدمة في الأدبيات السياسية نبتعد عن ذكرها في هذا المقام .

وينبغي التنبيه الى انه ورغم ابتعادنا عن الخوض في مصطلحات تلك المفاهيم المستخدمة من الناحية الشكلية، إلا أنها ليست مترادفات كما يتصور البعض لمفهوم الأبواب المؤصدة . فهذا المفهوم ربما يتقارب مع ما صاغه بعض المؤرخين على أنه مجموعة من الافراد داخل التنظيم الإداري المستقل أو المرتبط بعلاقة عمل تكاملية في الجهاز الإداري التي تُمارس من خلاله مصلحة مدفوعه بوصايات فيما بينها تتمثل لاحقا في رسم سياسة وصناعة قرار أو توجه ما يخدم الايديولوجيات الخاصة بها ، وهذا المفهوم – إن جاز التعبير – يشبه بحد ذاته كيان مستقل للتوجهات والسياسة العامة في التنظيم والإدارة وهيكلتها كجزء لا يتجزأ من مؤسسات أركان الدولة ، وما هذه المجموعة إلا محصلة تسعى الى استدامة فكرة نظام التوريث لديها، الأمر الذي قد تتعاقب عليه وصايات اذا ما تُرك على مصرعيه دون معالجات حازمة فمن المُسلِمات انها تعمل في المقام الأول على تعزيز مصالحها الخاصة دون الاكتراث لإيديولوجية السياسة العامة للدول نحو بناء المجتمع والتنمية .

ويرى العديد من الباحثين أن للأبواب المؤصدة وجهان، أحدهما معلن وظاهر يتمثل في رجالها الذين يتبوؤون مواقع متقدمة في الجهات والمؤسسات المؤثرة في صنع القرار كونهم المعنيين بإدارتها التنفيذية علاوة الى المؤسسات المساندة لذات التوجهات. تلك الملقاة على عاتقهم بحكم الصلة والعلاقة بالمهام الإجرائية والاشرافية ، والوجه الآخر خفي غير معلن يتولى تحريك الأطراف المعنية في المؤسسات الأخرى ذات الصلة بالإجراء وقد يتم إحكام ذلك باللجوء الى التأطير التشريعي لشرعنة تنفيذ المصالح المشتركة لدى المجموعة وبالتالي تأصيله حكماً.

الأمر إذن أمام مفترق طرق بين مدى ديمومة هذا المفهوم وبين حراك النهضة والتنمية لدى الكثير من الدول التي أصبح الرأي العام فيها يناشد بالتغيير الجذري لرؤيتها المستقبلية من جراء هذه الممارسات عبر جميع المنصات وعلى وجه الخصوص وسائل التواصل الإجتماعي المتاحة ، ولأنها – أي الأبواب المؤصدة – تركيبة معقدة ومتداخلة أشد ما يكون التداخل ، فإنها لا تترك مجالا أو فضاء إلا وغزته واحكمت القبضة عليه لذلك فان اختراقها ليس بالأمر السهل الى درجة كبيرة ، لأنها باختصار تعمل وراء الكواليس ضمن عناصر تتمثل في الموظفين بمختلف المستويات الوظيفية وفق الهياكل التنظيمية تجمعهم مصالح خاصة بالمؤسسة ذاتها تارة، وأخرى مصالح مشتركة مع موظفين من مؤسسات أخرى يكون العامل المشترك بينهم الإجراء والتنفيذ تارة اخرى ، فهؤلاء يتفقون بالتناوب على نظام التوريث الإداري من خلال تبادل التعيينات على وظائف الإدارة العليا في مؤسسات الدولة والملتحقة بها ذات النفع العام كلا في محيط السيادة الخاصة بالمسؤول في تلك الجهة والتي تكون حالات الاستثناء بها نشطة وطاغية على الموقف الاجرائي / الشكلي مع إضفاء طابع قانوني على حالة الاستثناء تلك، حيث أن هذا النظام تطور في السنوات الأخيرة ليصبح الهدف فيه بالمقام الأول ولاء المسؤول لشخصه وليس الولاء الوظيفي للمؤسسة / الدولة ، والخلاصة منها تقاسم الامتيازات من خلال الصلاحيات متى تسنى لهم ذلك ، ومن العناصر كذلك النخب الرأسمالية، أي رجال الأعمال الذين يحاولون استخلاص رأس المال، واحتكار الاستثمارات لاستمرار امتيازاتهم المالية وبسط نفوذهم الاقتصادي الذي يؤثر حتما على الاتجاهات الأخرى للدول ، ومن العناصر الأخرى ايضاً شخوص الأوساط الأكاديمية والمثقفين والتكنوقراط، لاسيما أولئك الذين يعرفون كيفية السيطرة على تدوير وتدوين النظم واللوائح والقرارات الإدارية والتنظيمية فيما بينهم قد تتماشى ظاهريا مع القوانين والتشريعات وما بطن منها يتحد مع الأجندة غير المعلنة في أغلب الأحوال لصالحها.
وارتباطا بما ورد ذكره ، فإنه وبحسب الفكر السائد لدى ممن أنتهج سياسة الأبواب المؤصدة والوصاية على المؤسسات ذات النفع العام يرى نفسه بأنه الحارس الأمين للقيم الوطنية ضد الاعداء سواء من الداخل أو الخارج ، وبالتالي فان الأطراف الفاعلة من خلال هذا النهج يمكن أن تبرر العديد من الاجراءات بان افرادها هم الجوهر الرمزي للمحافظة على تحقيق أهداف أركان التنمية والاستدامة خاصة مع أنعدام أو غياب تقييم المؤشرات وأنظمة المحاسبة والمساءلة .

ومن جهة اخرى لا يجوز اهمال الدور الذي تلعبه البيروقراطية باعتبارها أداة أخرى تستخدمها “الأبواب المؤصدة ” وذلك من خلال التمسك بأنماط وقواعد الإدارة العقيمة والعتيقة وعدم تغييرها، فالبيروقراطيون في هذه الحالة يمثلون قوة منظمة تقود المقاومة السلبية لأي برامج أو سياسات تضعها السياسية العامة التي تخالف مصالحهم . فمثلا بالإضافة إلى التحكم في الاقتصاد خاصة من قبل رجال الأعمال والشركات الخاصة يلجؤون إلى امتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الأسواق من خلال العرض والطلب من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي يحرص بشكل أو بآخر على بقاء هذا واستدامته، فكم من أبواب الدول المؤصدة التي قامت بتعيين فئات معينة في مختلف المستويات الوظيفية المؤثرة بالمؤسسات – دون استثناء – تلك التي لم تتعدى محيط الفئات المألوفة لدى مجتمعات الدول دون الالتفات لباقي الفئات الأخرى العاملة بالجهة أو ممن تتوفر فيهم الكفاءة من شرائح المجتمع الواحد . المسار الذي سوف يمثل الاستدامة في الوصاية بكل امتياز ليصبح الغالب منهم قياديين وصناع قرار غير مؤهلين كونهم ليسوا من طبيعة عمل الحقل الوظيفي وإنما تم الدفع بهم بالوصاية والعلاقات التي موضعتهم لأجل تمرير أجندة المجموعة المحسوبين عليها ، ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء يعتمدون على كفاح واستماتة الشرائح الكادحة من الموظفين المستقلين العصامين عبر التسلق بمساهماتهم ومبادراتهم وتفانيهم في العمل ، فكم من الكفاءات الوطنية في بعض الدول هُمشت وأخرى هُجرت وأخرى لم تنل فرصتها الحقيقة فكم وكم ؟! والحديث يطول في هذا السياق.

وفي الأخير، لا بد من الإشارة كذلك الى ان الكثير من دول المنطقة تستخدم أدوات متعددة من بينها: تدخل أفرادها في الاقتصاد المباشر وغير المباشر ذات الطبيعة المتداخلة في الإجراءات من خلال امتلاكها الشركات الاستثمارية التي تمكنها التأثير والتحكم في السوق نتيجة إفتقار التوازن المعرفي والفكري في المؤسسات الحكومية ، وكذلك إشرافها على اغلب المشاريع الاقتصادية ذات الشراكة الحكومية وهو ما يمكنها من ان تصبح لاعبا أساسيا يتحكم في الحياة الاقتصادية والاجراءات ذات النفع العام من خلال القيام باحتواء وإعادة تعيين ممن انتهت خدماتهم تحت أي سبب وفق القانون أو ممن خُيروا ونقلوا طواعية في مناصب عليا في تلك الشركات ، إذاً بالتالي فهم لا يخرجون عن جلابيب المحسوبين على الأبواب المؤصدة.

لذا فمن المنعطفات الأخيرة على مؤسسات أي دولة أن تستمر سياسة الأبواب المؤصدة مؤثرة جذريا على مصالح اركان الدولة لا سيما التي تمس مصالح المواطن المباشرة المتمثلة في تحقيق ونيل الجوانب الاجتماعية المكفولة وصولا الى الحياة الاقتصادية وكما تجدر الإشارة إلى أن الدولة العصرية التي تعمل وتسير وفق القانون ودولة المؤسسات تعتمد على الشفافية والنزاهة، وتراعي مبادئ المهنية والتدرج الوظيفي والتنافس الإبداعي الشريف تعتبر من الدول التي تسير على خطى ثابتة مستدامة عوضاً عن فلسفة الأبواب المؤصدة ؟! .

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights