2024
Adsense
مقالات صحفية

المستقبل البعيد!

د. علي زين العابدين الحسيني الأزهري
باحث وكاتب أزهري

ليس عيباً أن يفكر الشخص في مستقبله وفق خطةٍ يعقبها عملٌ مع أخذٍ بالأسباب للوصول إلى نتائج نيرة مرجوة، لكنّ الخطر يكمن حينما يسيطر عليه تفكيره المستمر في أمور مستقبله، فيشعر حينها بوجود متطلباتٍ كثيرةٍ منه مع توفر فرصٍ قليلة وإمكانيات محدودة، وهو ما يسبب مرض القلق الذي يستمر من الفزع بالمستقبل.
هذا التفكير المستمر المصحوب بقلقٍ يجعلك في حالة خوف وترقب لأحداث الأيام في حين يشعر آخرون حولك براحةٍ وهدوءِ بالٍ وسعادة، وإن تمكن شعور الخوف من القلب فسوف يعيش به الشخص حياة مفزعة إلى أن ينسى معه نفسه، وسرعان ما ينتبه أن عمره ذهب؛ لأن الأيام متوالية، والسنين متتابعة، ولا يمكن أبداً وقف ساعة الوقت ولو لدقيقة واحدة.
وسيجد الشخص بعد هذا الصراع الطويل مع الحياة وفي الحياة أنه بحثَ عن المجهول، فلن يجد في نهاية مطافه نهايةً لهذه الأيام السابقة إلا الضياع والبحث عن التعب لنفسه ولمن حوله، وأكاد أجزم أن كثيراً منا يبحث عن (المجهول) في حياته عن شيء في مخيلته أو ذهنه ليس له أثرٌ في الخارج أو وجود في الحقيقة.
لعلكَ سألتَ أحد أصحابك يوماً عن أمله أو طموحه فكان جوابه عجيباً بأنه لا يعرفُ، أو يجيبك بإجابة مستحسنة بأنه لم يقرر بعدُ، وهي شائعةٌ على الألسنة نحسن الظن في قائلها، لكنّ الأعجب من هذه العجيبة أنه يُتعب نفسه في ليله ونهاره عن شيء لا يعرفه أو لم يتعرف عليه، وحاله كحال البسطاء المغرر بهم في رحلة البحث عن الآثار القديمة طمعاً في الحصول على الغنى وجلب الأموال الكثيرة.
وأذكر أنّي قرأتُ في روايةٍ نسيت اسمها كانت أحداثها تدور عن قصة رجلٍ ذهب إلى صحراء إفريقيا بحثاً عن كنزٍ مدفونٍ أخبره به صديقٌ، وكان كلما حفر حفرة وتأكد خلو الكنز منها شرع في حفرِ أخرى، وهكذا استمر حاله إلى أن مرت عليه الأيام وحفر حفرته التي كانت نهايته معها فمات فيها.
هذا المثالُ البسيط صادقٌ وواقعٌ على حال كثيرين في صراعهم الدائم مع الدنيا، حيث لا تخلو حياتهم من صراعات ومشاكسات ليس مع الآخرين فحسب بل حتى مع أنفسهم، وفي الأخير لا هو حصل شيئاً من الدنيا يستحق هذا الصراع وضياع العمر فيه، ولا هو عاش عيشة السعداء أو على الأقل محاولة العيش في هدوءٍ واستقرارٍ نفسي.
صار أقصى أماني الناس زمن (الكورونا) التفكير في يومياتهم، فتركوا التفكير في مستقبلهم البعيد، وأصبح جلّ همهم أن يسلمهم الله من فيروس (الكورونا)، ويخرجوا من الحجر المنزلي المفروض عليهم، وتعود لهم الحياة، ويعودوا كما كانوا قبل العزلة المنزلية، وهو في حقيقة أمره تفكيرٌ عفوي في مستقبلهم القريب، وكأنهم نسوا أو تناسوا وضع مستقبلهم البعيد وما ذاك إلا لأنهم أيقنوا أن التفكير اليومي أو الشهري يسبق التفكير في المستقبل البعيد.
إنّ الحياة التي نعيشها أسهل بكثيرٍ من الحياة التي نشق فيها على أنفسنا ونُجَشّمها المهالك، وننشغل فيها بأمانينا البعيدة دون أدنى اهتمامٍ ورعاية بأمانينا القريبة التي يمكن لنا جميعاً تحصيلها بسهولةٍ والانتفاع منها حينما يكون الرضا عنواننا، والقناعة زادنا، والشكر دأبنا، فتكون النفوس حينها زكية، والقلوب سليمة، والصدور سليمة.
لقنتنا (الكورونا) درساً مهماً لن يُنسى من دروس الحياة يجب الالتفات له والتأمل فيه، وهو أنّ الدنيا لن تبقى كما عرفتها، فالأيام تتغير، والأحوال تتبدل، فَعِش أيامك، واعمل ما بوسعك عمله، وحقق ما يمكن تحقيقه، واترك عمل ما ليس في يديك إلى أن يأتي وقته وأوانه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights