إنه الخوف
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
“وذات صباح كاد ينهزم، قال له جده إن الوقت قد حان ليسبحا إلى الدوامة في المنتصف النهر، ارتعد حيث قال جده ذلك، كانت الدوامة التي يسمونها “الكونية” ملتقى تيارات رهيبة، يتجنبها أطول السباحين باعا. إن الموت ولا شك يسكن في تلك البقعة من النهر، مثل حيوان خرافي مروع، ومع الخوف بدأ يحس لذة الخطر، ثم تماسك على نفسه وقد وطن نفسه على الخوض في المخاطر حتى الموت” (النص أعلاه من رواية “مريود” للروائي السوداني المعروف الطيب صالح – رحمه الله -).
يحل الخوف كأحد المسلمات الاجتماعية التي تقوم عليها حياة الإفراد في أي مجتمع كان، وليس هناك من مجتمع لا يضمن الخوف ضمن وسائله الخاصة إما للتخويف من أمر، وإما لاتخاذه أسلوب ردع لأمر ما، وإما اعتماده كأسلوب تربية عند البعض غير العارفين لتداعياته ومخاطره على النفس البشرية، خاصة على الأطفال، حيث ينشئ أنفسا قلقة؛ خائفة؛ مضطربة؛ تفزع وتهرع من المعتاد والمفروغ منه، وهذه بحد ذاتها مشكلة موضوعية في صميم التربية، ولا تزال ثيمة الخوف بأي مسمى كان أسلوبا معتمدا عند كثير من الناس حتى اليوم، فالتخويف بالحيوانات المفترسة، أوبرجل الشرطة، أو بسيارة الإسعاف، أو حتى بالأب في بعض المواقف أسلوب شائع ومعروف، حتى عند بعض الأمهات العارفات، ولذلك يعاني كثير من الأطفال من هذه الناحية، وتنمو هذه المعاناة حتى يصير هذا الطفل شابا ورجلا يفترض أن يقوم بالكثير من الأعمال التي؛ بعضها؛ يحتاج إلى مغامرة يسيرة للنجاح، ولكن لأن الخوف متربع على عرش الصورة الذهنية في نفسية هذا أو ذاك من الناس، فإنه يقفل راجعا مع أنه قريب جدا من الولوج إلى سلم النجاح.
نرى في تجارب الآخرين الكثير من المواقف المعبرة عن الإقدام، وربما الشجاعة حتى، عندما يقدم هؤلاء على امتطاء سبل المغامرات الكثيرة، نرى بعضها عبر مقاطع الـ “فيديو” المصورة، حيث يعانقون رؤوس الجبال العالية جدا، أو يمتطون الدراجات الهوائية من عل، يكاد يطير في الهواء، أو مثل سباقات السيارات والدراجات النارية، أو يدخلون في مغارات بكر مموهة بالخرافات والخزعبلات؛ عند المجتمعات التقليدية، أو يتعاملون مع الحيوانات المفترسة، أو يقدمون الألعاب البهلوانية المختلفة، كل ذلك منشأه أن أنفس هؤلاء لم تتعرض لترويض الخوف بين جنباته، وإنما نشأت على فطرتها حيث لم تلوثها تعاليم المجتمع المتخلف في بعض أفراده، ولذلك يكون النجاح هو حليفهم الدائم في كل جوانب حياتهم، وما يزيدهم النجاح إلا الإصرار أكثر وأكثر على امتطاء الصعب والمستحيل.
تفرض ثقافة المجتمع الكثير من الشروط على أجيالها إبان نشأتهم الأولى، وكثيرا من هذه الشروط لا تدفع بأصحابها إلى الأمام بقدر ما تعيدهم إلى الوراء أزمانا بعيدة، فتغربهم عن الواقع الحقيقي، ولأن هذه الثقافة مادة غير مرئية، وخاضعة لقناعات كل فرد على حده، فإنه في المقابل يصعب الإمساك بها، ولذلك فأعمارها تطول، على الرغم من تصادمها مع الواقع، ولذلك فهي تحتاج إلى مجاهدة كبيرة يشترك فيها كل أفراد المجتمع ومؤسساته الأهلية والرسمية، وبخلاف ذلك تبقى الحالة تراوح ذاتها لأزمان بعيدة، ويبقى الجيل عبر مراحل نموه المختلفة يتلقى المأزق الناشئ بين هذه الثقافة وبين متطلبات الواقع الذي يعيشه، وهو واقع يتصادم مباشرة مع كثير من مسلمات هذه الثقافة التي ليس يسيرا أن تتزحزح لتفسح المجال أمام القادم ليأخذ دوره، ويعيد تشكيل أفراده بالصورة التي يجب أن يكون عليها.