جبر الخواطر .. جبر الأضرار
أحمد بن سالم الفلاحي
قبل فترة كنت أستمع الى إحدى الإذاعات الناطقة باللغة العربية، وجاء من خلال البرنامج تقرير عن جدل واقع في إحدى الدول العربية على نص مادة في قانون الأحوال الشخصية وهو النص المتعلق بإعفاء مرتكب جريمة الاغتصاب في حالة قبوله زواج من قام باغتصابها، حيث بهذا الزواج ينتقل من فئة مجرم إلى فئة الرجل الصالح، وهو إعفاء يعارضه جمهور عريض من القاعدة الشعبية في تلك الدولة، ولذلك يريدون الغاءه، وحسب تعليل أولئك الذين ينتصرون إلى جانب البقاء على نص المادة، أن في ذلك “جبر” لخواطر العائلات الكبيرة في المجتمع، لأنه، على ما يبدو، أن أكثر المرتكبين لجرائم الاغتصاب هم من فئات هذه العوائل، والأسباب معروفة، بينما يتكئ المعارضون على إلغاء المادة في القانون على أن هذا الزواج سيكون شكليا ولفترة محدودة، لا يلبث أن يتوارى ويزول، وتكتوي به المرأة بعد ذلك، حيث تنضم إلى فئات المطلقات المغتصبات المعفرات لجبين أسرهن مدى العمر.
هذا الجدل يذكرني بقصة المرأة المخزومية التي سرقت إبان عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء من جاء ليتشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متجاوزين بذلك حد الشرع الكريم المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل، وعلى ما يبدو أن التاريخ لا يعيد نفسه فقط، كما يقال، وإنما تتجذر فيه الأحداث ولا تزول، وتبقى في المشاهد، ولا تنتهي، والناس هم الناس، ولا تقل لي، أن هناك معرفة دينية أو غير دينية قادرة على تحييد الرأي في حالة الرأي، وعلى أرباك القناعات في حالة اصطدام هذه القناعات بما لا يتوافق مع ما هو سائد، وما نسمعه هنا أو نراه هناك من حالات تتجلى فيها إحدى القيم الرفيعة إنما هي استثناءات تنسب لأصحابها، وتظل في حكم الـ “ستتناء”.
تبقى المحنة أكبر عندما ينتصر الإنسان أكثر لمفهوم “جبر الخواطر على حساب الضرر” فلا يقيم للضرر الناشئ من ممارسة الخطأ أية قيمة مقابل جبر الخواطر، حيث يذهب التفكير أكثر إلى إعلاء صوت الظلم والفساد بدلا من الانتصار لصالح المظلوم وردء الفاسد، على الرغم من أن الظلمة والفسقة في كل المجتمعات يبقون قليلو العدد، وإن كانوا كثيرو العدة؛ بحكم الثراء والمناصب والوجاهات الاجتماعية التي يحظون بها، ويتسترون تحت عباءاتها الداكنة إبان ممارساتهم لغواياتهم الشيطانية الماكرة.
يرى العقلاء من أبناء المجتمع، وهم قلة، أن لا تغيير في هذه الصورة التقليدية المتجذرة التي تعلي من صوت الظلم، بفعل مناصرتها للباطل إلا بالقانون الذي يلغي أمام منصة القضاء هذه التموجات الاجتماعية غير السوية، حيث يقف الجميع سواسية أمام القانون، ولكن حتى يتحقق هذا الأمر يحتاج إلى ميلاد قناعات كثيرة ليس فقط لدى حماة السلطات القضائية، ولكن المهم أكثر لدى الشريحة العريضة من أبناء المجتمع، لأن الوعي لو توغل في هذه الشريحة العريضة على تعدد فئاتها؛ يمكن عندها للقضاء أن يقول كلمته وفق نصوص القانون، أما بغير ذلك فستبقى المراواحات أو المناخات الاجتماعية قائمة، ولن يتغير شيء، وسنسمع، وسنقرأ ولو بعد عشرات السنين لمن يبقى منا، أن هناك من ينتصر للخواطر أكثر من أن ينتصر للأضرار الجسيمة التي يسببها الانتصار للخواطر، على الرغم من أن من ينتصر لخواطرهم هم قلة قليلة، ويكون ذلك على حساب المجموع، وكأن المجموع ما وجد إلا لخدمة هذه الفئات القليلة في المجتمع، والتي تعبث هناك وهناك، وتملأ الأرض فسادا، والأنكى من ذلك أن أفرادا من الطبقة الكادحة هي من يبذل الغالي والنفيس لأن يستنشق أفراد الطبقات المتجاوزة للقانون وللأعراف الحرية الدائمة، وتنعم بالأمان النفسي والمادي، كل ذلك مقابل حفنة متواضعة من المال، وقد لا تكون.