2024
Adsense
مقالات صحفية

الجدائل المعطرة

راشد بن حميد الجهوري

همس الرعد ذات يوم يغازل وطفاء أجفلت عن صويحباتها، فتوارت خلف الجبل حياء وترقبا، وكلما مرت وطفاء عانقت أختها، وعندها ظهر البرق يشد من عضد أخيه الرعد، فكان الهمس جهرا، وكانت الشرارة سيفا يقطع الليل البهيم ببريقه، وتحركت سواكن الرياح نحو تلك السحب المتوارية خلف الأوتاد، فكان الدفع نحو السفوح التي كادت تهلك من شدة الشوق للمطر، حتى جاءت تباشير الفجر تفوح بعطر الغيث المنهمر، فكانت تحايا الصباح تتكلم بلسان البذور النائمة: أهلا وسهلا بالخير والبركة وبالزائر المنتظر.

وتكرر المشهد بتفاصيل مختلفة، ولكنه ظهر في لوحته الختامية بنقوش ربيعية، وزركشات خضراء يخالطها الأصفر والأبيض، وانحدرت من تلك السفوح الجبلية جدائل الجمال، والتي استبدلت لونها الترابي المتحجر بألوان تسر الناظرين، وتحركت بذلك مشاعر الجمال في نفوس المتأملين، وكل جديلة منها تصنع مشهدا لم تنسجه أنامل التجميل البشري، وإنما نسجته فطرة الخالق المصور العظيم، فجاء ملهما بالتفاؤل والبشرى، وجاء في شكل قصيدة قافيتها التسبيح وأوزانها من بحر التفكر والتأمل.

تلك هي الضفائر الجبلية التي تلتقي مع بعضها ليكون الإهداء عطرا وزهرا، وتلك هي الجدائل المعطرة التي لم يسترها لحاف أو بيت، وفي الوقت نفسه هي غير سافرة، لأن كل عقل متأمل هو محرم لها، وكل شاعر متذوق هو خطيب لها، وكل عين ناظرة لها شاهدة على معالم الحسن والجمال.

كادت الجدائل أن تتكلم بعد صمت، وكاد زهرها أن يضحك للزائرين، ولكن الشتاء بلطفه وكرمه كان اللسان المعبر والثغر الباسم، فاجتمعت دغدغات نسائمه الباردة بشذا العطر البري الذي لم تحتويه زجاجة لتصافح المشاعر والوجدان، وتطبع في زوايا الذاكرة ألوان الإبداع والدهشة، وفي أحيان كثيرة الذهول، ولسان الحال: سبحانك ربي، سبحانك يا رحمن يا لطيف.

وبعد: فهذه جدائل الطبيعة تدلت من رؤوس الجبال والتلال بسحرها ورونقها، وهذه ضفائر الألوان البهيجة تصنع مشهدا نادرا أعجب الناظرين حسن الجمال والبهاء فيه، وهذه السفوح أهدت الناس بساطا أخضرا موشحا بزهرات أنيقة، ولم يبق إلا أن نكون ذاكرين شاكرين للواهب المنعم سبحانه.

وختاما: كل الجدائل والضفائر وجب أن تكون تحت وشاح الحياء في سترها، وتبقى جدائل التلال سافرة بعطرها وجمالها الساحر للمتأملين والمتفكرين في جمال خلق الله، فهل يلام بعد ذلك من تغزل أو أسرف في النسيب والوصف؟!

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights