اللغة العربية هُوية أمة وجسر حضارة

صالح بن سعيد الحمداني
تحتفل الأمم بلغاتها باعتبارها الوعاء الحافظ لذاكرتها، والمرآة العاكسة لهُويتها، واللغة العربية في هذا السياق لا نجدها مجرد أداة للتواصل فهي روح حضارة امتدت قرونًا، وأسهمت في تشكيل الوعي الإنساني، ونقل المعرفة، وبناء جسور التفاعل بين الشعوب، والاحتفاء باللغة العربية اليوم يأتي تأكيدًا على مكانتها العميقة، ودعوة صادقة لصونها وتعزيز حضورها في زمن تتسارع فيه التحولات الثقافية والتقنية، حيث تُعد اللغة العربية من أقدم اللغات الحية وأكثرها ثراءً، إذ تمتاز بنظام لغوي متكامل يجمع بين الدقة والمرونة، ويتيح لمستخدميها التعبير عن أدق المعاني وأعمق المشاعر، وقد حملت العربية على مدى التاريخ رسالة العلم والفكر، فكانت لغة القرآن الكريم، ما أكسبها قدسية خاصة في قلوب مئات الملايين من المسلمين حول العالم، وجعلها محورًا أساسيًا في الثقافة الإسلامية والإنسانية على حد سواء.
ولا يمكن الحديث عن أهمية اللغة العربية دون التوقف عند دورها الحضاري، ففي العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية، كانت العربية لغة العلم والفلسفة والطب والفلك والرياضيات، ومن خلالها تُرجمت أعمال اليونان والفرس والهنود، ثم أُضيف إليها وابتُكر، قبل أن تنتقل هذه المعارف إلى أوروبا، فتُسهم في نهضتها الحديثة، إن هذا الدور التاريخي يضع على عاتقنا مسؤولية كبيرة في الحفاظ على اللغة العربية بوصفها ركيزة من ركائز الإسهام الحضاري المستمر، وفي العصر الحديث تواجه اللغة العربية تحديات متعددة أبرزها هيمنة اللغات الأجنبية في مجالات التعليم والبحث العلمي والتقنية، إضافة إلى انتشار اللهجات العامية على حساب الفصحى في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ورغم أن التعدد اللغوي ظاهرة صحية، فإن إضعاف اللغة الأم قد يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية وفقدان الرابط المشترك بين أفراد المجتمع، ومن هنا تبرز أهمية الاحتفاء باللغة العربية بوصفه فعلًا ثقافيًا وتربويًا يهدف إلى إعادة الاعتبار للفصحى، وتعزيز استخدامها في الحياة اليومية والمؤسسات الرسمية والتعليمية، وإن الاحتفاء باللغة العربية لا يقتصر على المناسبات الرمزية أو الاحتفالات السنوية ولكنه يتجسد في سياسات واضحة وممارسات عملية يبدأ ذلك من المدرسة حيث يُعد تعليم العربية بأساليب حديثة ومحفزة أساسًا لبناء علاقة إيجابية بين الأجيال الناشئة ولغتهم، كما يمتد إلى الإعلام الذي يتحمل مسؤولية كبيرة في تقديم محتوى رصين وجذاب يحترم قواعد اللغة، ويُبرز جمالياتها وقدرتها على مواكبة العصر، وفي ظل الثورة الرقمية تمتلك اللغة العربية فرصًا واسعة للانتشار والتجدد فقد أسهمت المنصات الرقمية والتطبيقات الذكية في إتاحة المحتوى العربي، وفتح آفاق جديدة للإبداع والكتابة والنشر، غير أن هذه الفرص تتطلب استثمارًا واعيًا في تعريب العلوم، وتطوير البرمجيات ودعم البحث اللغوي والتقني بما يضمن حضور العربية في مجالات الذكاء الاصطناعي والمعرفة الرقمية.
كما أن الاحتفاء باللغة العربية هو احتفاء بالإنسان العربي ذاته، بثقافته وقيمه وتاريخه، ولا يمكن أن نجد اللغة العربية كيانًا جامدًا فهي في حقيقتها كائن حي يتطور بتطور مستخدميه، وكلما ازداد وعي الأفراد بأهمية لغتهم ازداد حرصهم على استخدامها استخدامًا سليمًا، وتطويرها بما يخدم حاجات العصر دون التفريط في أصالتها، وتبقى اللغة العربية ركيزة أساسية للوحدة الثقافية، ومصدر فخر واعتزاز، وجسرًا للتواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، والاحتفاء بها لا يمكن أن نعتبره ترفًا ثقافيًا فهو ضرورة حضارية تفرضها مسؤولية الحفاظ على الهوية، وبناء مجتمع واثق بجذوره، منفتح على العالم، وقادر على الإسهام في مسيرة الإنسانية بلغة تحمل في حروفها تاريخًا، وفي مفرداتها أفقًا لا ينتهي.



