نقطة أول السطر .. (ما بعد الكتاب .. وما بعد الغبطة)

عادل بن حميد الجامعي
بعد عشرة أيامٍ من المكوث بين أرفف الكتب، عشرة أيامٍ من التحليق بين سطور المؤلفات وأحضان العناوين،
عشرة أيامٍ من اللقاءات الفكرية والأحاديث الملهمة والحوارات الدافئة، خرجنا..
خرجنا من معرض مسقط الدولي للكتاب، كما يخرج العاشق من حضن حبيبٍ لم يروِه الوداع، كما يخرج القلب من سجدةٍ طويلة ما شبعت من المناجاة..
عشرة أيام ..
عشنا فيها حياة غير التي نعيشها، نحن الذين نمشي عادةً في طرقات الحياة نُطارد الرزق ونحمل الهموم ونواكب المهام، فإذا نحن هناك..
نحمل الكتب بدل الحقائب، ونُطارد الفكرة بدل الفرصة، ونتبادل الحبر لا النقود، ونتبارك بالسلام مع وجوهٍ تقرأ أكثر مما تتكلم، تكتب أكثر مما تشكو، وتبتسم كلما رأتك تمسك كتابًا كأنك تحمل ابنتها البكر بين يديك
عشرة أيامٍ .. كنت فيها ابن المكتبات، وحفيد السطور، وصاحب الرفوف..
جعلتني أقول بثقة:
إن كان للحياة رئة أخرى غير الهواء، فهي الورق. كل زاوية هناك كانت صلاة، كل محادثة كانت درسًا، كل لقاء كان وعدًا ببعثٍ جديدٍ للقلب والعقل.
ثم خرجنا..
عدنا إلى ما يسمى العالم الحقيقي،
عدنا إلى طاولات العمل، إلى طرقات الازدحام، إلى المهام والتقارير ورسائل البريد الطويلة، لكننا لم نعد كما كنا.
صرنا نحمل في قلوبنا شيئًا من قدسية المعرض، شيئًا من عبير المكتبات، شيئًا من عيون الشعراء والكُتاب حين يوقعون كتبهم وهم يرجون أن يُقرؤوا لا أن يُصفق لهم.
عدنا..
لكننا نشتاق!
نشتاق إلى مقعد على طرف ركنٍ هادئ نقرأ فيه مقدمة كاتبٍ أحببناه،
نشتاق إلى ممرٍ ضيق بين جناحين،
تُصافحنا فيه كتبٌ لم نكن نعلم بوجودها لكنها علمت بوجودنا..
نشتاق إلى توقيع.. وإلى ضحكة إعلاميٍّ لم يكترث للكاميرا بقدر ما اشتغل بالكتاب الذي يحمله.
ومن بين كل الوجوه النبيلة التي التقيتها، من كل القامات العالية التي أكرمني الله بمعرفتها، كانت هناك *جوهرة مضيئة*..
لقائي بالعالِم الفاضل، الأستاذ الدكتور محمد فاضل جيلاني، السليل المبارك، الجيل الرابع والعشرون للشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله، رجل من نور، حديثه رقراق، وعلمه موصول بسندٍ من النور والسلوك والوراثة المحمدية، فكنت في حضرته كالتلميذ الذي وجد مرآة قلبه، وكأن الله أهداني هذا اللقاء لأعرف أن في الأمة *ورثة نبوةٍ ما زالوا بيننا، يبعثون فينا الطمأنينة، ويُخبروننا أن *الدين لا يزال حيًّا.. وأن الفكر ما زال يتنفّس.
الآن.. نحن هنا، نكتب، نعمل، نُربي، نبيع ونشتري.. لكن في القلب *وَجْد*، وفي الروح حنينٌ شفيفٌ إلى يومٍ نعود فيه إلى بهو المعرض، نحمل فيه مؤلفاتنا القادمة، نلتقي فيه بكرماء جدد، ونقتني فيه حبرًا يليق بمقام الطموح.