الغيبوية الجماعية

د. سعود ساطي السويهري
أخصائي أول نفسي
خلق الله عز وجل الحياة بقدر، وجعل لها سُنن كونية وأنظمة، يقول الله عز وجل: (إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَر) (سورة القمر: الآية: 49)، ويقول تعالى: (سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ) (سورة فصلت، من الآية: 53)، وفي سياق آخر للدلالة على انتظام الحياة والليل والنهار يقول تعالى: (وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسًا وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشًا)(سورة النبأ، من الآية 10-11)، إن المتتبع لهذه الآيات الكريمة يجد أن الله تعالى قد نظَّم لنا هذه الحياة الدنيا وحدد الغايات والأهداف من الوجود النهائي لنا في هذا الكون، ألا وهو عبادة الله عزّ وجل، قال تعالى: (وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُون)(سورة الذاريات، الآية: 56).
ومن العبادات العظيمة التي تتوق لها النفس صوم شهر رمضان المبارك، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام هذا الشهر المعظّم بكل ما فيه من شعائر وعبادات ينتظرها المسلمون بلهفة وشغف، في أجواء تسودها المحبة والمودة والسرور لهذا الزائر الكريم، ولشهر رمضان مشاعر خاصة وأجواء روحانية لا يمكن تكرارها إلا في كل عام من شهر رمضان؛ لذلك يسعى المسلمون فيها لبذل المزيد من مجاهدة النفس، والصبر على الطاعة أملا في رضا الله سبحانه وتعالى، وتحصيل الأجر والثواب، وما أن ينتهي شهر رمضان إلا ويُكافيء الله عباده بفرحة العيد، والعيد من شعائر الإسلام الظاهرة (ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ) (سورة الحج، الآية: 32).
ولذلك نجد المسلمون يفرحون بالعيد وبقدومه فيهللون ويكبرون ويحمدون الله على أن أتم عليهم شهر الصيام، وفي العيد يتم بعض الشعائر الدينية كصلة الأرحام وزيارة الأقارب والجيران وغيرها، كما تتم بعض العادات الاجتماعية كالولائم والأعراس ونحوها، ومع اختلاف ساعات النوم واليقظة والسهر في شهر رمضان المبارك وأول أيام العيد والجهد والتعب الذي كان يجده المسلم أثناء العبادة يجد صعوبة في مواصلة يومه ويقظته وعمله، فيهرول سريعًا إلى النوم، ذلك الملاذ الذي يجد فيه راحته وضالته؛ ليجدد طاقته ونشاطه، ويستعيد قُوّته البدنية والنفسية، وهذه سنة الله في خلقه، وضرورة إنسانية مرتبطة بتكوينه الجسمي والعقلي والنفسي، ومع تقلبات وتغيرات الأجواء والتوقيتات في شهر رمضان المبارك وأول أيام العيد من المهم توضيح ما يحدث من اختلالات للساعة البيولوجية للإنسان، وهي موجودة في الدماغ وتتكون من آلاف الخلايا العصبية المساعدة على مزامنة وظائف الجسم وأنشطته من النوم والاستيقاظ والتغيرات المزاجية؛ وإذا لم يقم الأفراد بتنظيمها تزداد مجموعة عوامل تؤثر سلبا على احتمالية الإصابة بأمراض القلب والسكر وحساسية الأنسولين، وغيرها من الاضطرابات.
والشاهد هنا بعد هذا السرد السابق، وهو بمثابة تمهيد لما قد يقع فيه العديد من الناس مما يسمى (بالغيبوبة الجماعية)، وتحديدا يوم العيد، حيث اجتياح النوم وكأنهم في غيبوبة وبشكل جماعي، وترجع أسبابها لزاويتين: أولها الرغبة الدينية في قيام الليل وخصوصا في العشر الأواخر من رمضان، والليالي الوترية على وجه التحديد، وثانيها العادات السلوكية من تغييرات الساعة البيولوجية، فيعاني الكثير من اضطرابات النوم، والتي تظهر جليًا يوم العيد، فيؤدي المسلمون صلاة العيد، وقد يظلَّون يقظين حتى أوقات الظهيرة، وسرعان ما يخلدون إلى النوم، بعد سهر طويل ليلة العيد لا يستطيعون معه الاستمرارية في اليقظة، وكأنهم أصيبوا بغيبوبة لم يستطيعوا معها الإفاقة، فيفوِّتوا على أنفسهم فرصة إحياء يوم العيد بسننه وأجوائه، وقد يؤدون بعض شعائره بالكاد أو على استحياء، وسرعان ما تجد الطرقات خالية تمامًا من البشر، ومن في المنازل نائمون من كثرة السهر، وقل مرتادوا المساجد.
ويتولد عن هذه الأمور والعادات لاحقًا العديد من الاضطرابات، وخاصة في النوم أو النوم المتقطع والمزاج المتقلب، والشعور بالنعاس نهارًا، وقد يصاب الأشخاص بالأرق، وهو عبارة عن صعوبة الدخول في النوم، وقد ينام الفرد في أوقات غير مناسبة للنوم؛ نتيجة تغيير العادات، فتضطرب الأسرة بأكملها ما بين الصغار والكبار، فأحيانًا الصغار في عالم اليقظة، والكبار في حالة المنام والعكس، وهكذا، ويحتاج الأفراد لأوقات حتى تتم السيطرة والضبط لعملية النوم. وحلا وتفاديا لهذه الأمور يحتاج الأشخاص إلى اتباع قواعد معينة سواء قبل أو بعد أو خلال شهر رمضان، ويمكن توضيح هذه الأمور على النحو التالي:
1- الاستفادة من الإرشاد المعرفي السلوكي للتعرف على العادات والسلوكيات الصحيحة.
2- التهيئة والاستعداد والعزم منذ البداية للشهر الفضيل نفسيا وعقليا واجتماعيا وبدنيا.
3- الحصول على قسط كاف من النوم ليلا .
4- تحديد زمني مؤقت للنوم والاستيقاظ، وهو نوع من تنظيم الذات.
5- الموازنة بين عدد ساعات النوم الليلي والنهاري منذ بداية الشهر الكريم.
6- يمكن العزم على عدم السهر كثيرا ليلة العيد، وتنظيم يوم العيد خصيصا من خلال اليقظة والصمود إلى ساعات الليل لوقت العشية؛ حيث يساعد ذلك في التنظيم للنوم بشكل أفضل.
7- تجنب الإسراف في تناول المنبهات مثل الكافيين ونحوه.
8- يمكن أيضا استخدام تمارين الاسترخاء والتنفس، والتهيئة البدنية.
9- التعرض أشعة الشمس لإعادة ضبط الساعة البيولوجية.
10- اتباع نظام غذائي صحي مع ممارسة الرياضة.