
النبا -محمود الخصيبي
عندما تتجول في أزقة المدن العمانية القديمة أو الأسواق الشعبية، تجد نفسك محاطًا بنسيج اجتماعي متنوع، لكنه منسجم كليًا. في عُمان، لا يُنظر إلى الاختلافات على أنها حاجز، بل تُعامل كجسرٍ للتواصل والتفاهم. هذا ما يُعرف بـ “المؤتلف الإنساني”، وهو المفهوم الذي يعكس القيم والمبادئ التي تجمع البشر على أسس الاحترام، والتعايش، والتسامح، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو الدينية.
لقد نجحت عُمان، عبر تاريخها، في بناء نموذج يُحتذى به في التسامح والتعايش، مستندة إلى إرث حضاري وقيم متجذرة، تُترجم اليوم في مختلف مجالات الحياة، من القوانين والتشريعات إلى التعليم، والعمل الإنساني، وحتى في العلاقات الدولية.
—
عُمان والتسامح عبر التاريخ
١. علاقات عمان مع جيرانها
لطالما كانت عُمان نقطة تلاقٍ للحضارات، حيث مرَّ بها العرب، والفرس، والهنود، والأفارقة، ولم تكن يومًا ساحة للصراع، بل كانت ساحةً للتجارة، والتبادل الثقافي، والتعايش السلمي. هذه الروح المنفتحة جعلت العمانيين يتعاملون مع الآخر بمرونة، ويرون في الاختلاف فرصة للثراء، لا مدعاةً للخلاف.
٢. التسامح الديني والمذهبي
عُمان ليست فقط نموذجًا في التعايش الاجتماعي، بل أيضًا في التعددية الدينية والمذهبية. على مر العصور، لم تعرف البلاد صراعات طائفية، بل تعايش الأباضيون مع السنة والشيعة في انسجام تام، ووجدت فيها الديانات الأخرى بيئة آمنة لممارسة شعائرها. هذا التسامح لم يكن مجرد تساهل، بل كان إيمانًا حقيقيًا بأن الدين هو علاقة بين الإنسان وربه، وأن التعايش ضرورة لبناء مجتمع مستقر ومزدهر.
٣. العمانيون في شرق إفريقيا: تجربة فريدة في التعايش
حينما انتقل العمانيون إلى شرق إفريقيا، لم يكن همهم فرض ثقافتهم، بل عاشوا بين السكان المحليين، واحترموا عاداتهم، وساهموا في تطوير مجتمعاتهم، مما جعلهم مقبولين ومحبوبين هناك. لقد نشروا الإسلام بالحكمة، وتركوا إرثًا من التسامح والتعاون ما زال واضحًا إلى اليوم.
—
المؤتلف الإنساني في سلطنة عُمان: قيم متجذرة في المجتمع
١. القوانين والتشريعات: حماية حقوق الإنسان
لم يكن التسامح في عُمان مجرد ثقافة اجتماعية، بل أصبح جزءًا من القوانين والتشريعات، حيث تحمي الدولة حقوق الإنسان، وتضمن عدم التمييز بين المواطنين والمقيمين، وتحرص على أن يكون القانون هو المرجع الأساسي في تنظيم العلاقات داخل المجتمع.
٢. التعليم والثقافة: بناء أجيال متسامحة
تحرص عُمان على تعليم الأجيال الجديدة قيم التعايش والانفتاح، حيث تدرج مفاهيم التسامح والحوار في المناهج الدراسية، وتدعم الفعاليات الثقافية التي تشجع على تقبل الآخر والتفاعل معه بإيجابية.
٣. المجالس العمانية: مدرسة للحكمة والتواصل
لطالما كانت “السبلة العمانية” مكانًا للحوار والنقاش، حيث يجتمع الناس بغض النظر عن اختلافاتهم، ويتبادلون الآراء بحكمة واحترام. هذه المجالس ساهمت في غرس قيم التسامح والتفاهم، وحل النزاعات بطريقة سلمية قائمة على الحوار والاحترام المتبادل.
٤. العمل الإنساني والإغاثي: التضامن العماني مع العالم
لا يقتصر المؤتلف الإنساني في عُمان على الداخل، بل يمتد ليشمل المساعدات الإنسانية والإغاثية التي تقدمها السلطنة للدول المحتاجة، مما يعكس روح التضامن والتعايش التي تتبناها كدولة وكشعب.
٥. الاقتصاد والتعاون الدولي: شراكات قائمة على العدالة
حتى في سياساتها الاقتصادية، تحرص عُمان على بناء علاقات دولية قائمة على مبدأ العدالة والمصالح المشتركة، مما يجعلها شريكًا موثوقًا به في مختلف أنحاء العالم.
—
مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني
لم يكن تعزيز التسامح في عُمان مجرد توجه داخلي، بل أصبح جزءًا من رؤية الدولة في تعزيز السلم العالمي. ففي السادس عشر من نوفمبر 2020، وفي خضم احتفالات السلطنة بعيدها الوطني الخمسين، احتفلت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية باليوم العالمي للتسامح، وهو اليوم الذي أعلنت فيه السلطنة تدشين مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني.
هذا المشروع، الذي أُطلق رسميًا عام 2019 في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، جاء بتوجيهات من السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، بهدف تعزيز ثقافة التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وجمع العالم على مبادئ الحوار والتفاهم المتبادل. وقد حظي المشروع بمشاركة عالمية واسعة من شخصيات ومنظمات تؤمن بأهمية نشر ثقافة السلام والانفتاح.
—
كيف نحافظ على هذه القيم في الأجيال القادمة؟
1. تعزيز المناهج الدراسية بقيم التسامح والتعايش، وترسيخ فكرة أن الاختلاف مصدر قوة، لا ضعف.
2. تفعيل دور الإعلام في نشر قصص وتجارب ناجحة عن التسامح في التاريخ العماني.
3. المحافظة على دور المجالس العمانية في نقل ثقافة الحوار إلى الأجيال الجديدة.
4. إبراز دور عُمان في نشر ثقافة السلام عالميًا، لتعزيز مكانتها كنموذج يُحتذى به.