الجمعة: 18 أبريل 2025م - العدد رقم 2524
Adsense
مقالات صحفية

الملكة (دروس في تحفيظ القرآن الكريم)

د. حميد أبو شفيق الكناني
كاتب إيراني

هذا الدرس هو استمرار إلى سلسلة هذه الدروس التي عشناها في رحاب الذاكرة، هذا الطواف الطويل والجميل الذي طرقنا فيه أبواب أسرار الذاكرة ومخزونها العميق وعمقها المكنون.

وأما عنوان هذه الحلقة وهو الملكة، ما هو سوى جمع شتات قبسات وفتات ومضات من الدروس الماضية؛ فالملكة هي المرحلة الأخيرة من جهود الحافظ التي يصل فيها إلى التلقائية والعفوية في الأداء والالقاء، وقد ذكرت سلفاً مرحلة تفجير الكلمة على اللسان ثم الجملة بعدها الآية تليها الآيات، وهكذا بصورة لا إرادية وكأنها وحي حضر أو إلهام صدر.

وتبدأ مراحل تكوين الملكة أو الانتقال إليها منذ بداية الحفظ وتثبيت المحفوظات، فقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أن الذاكرة لا تصل إلى صفر، فأول الحفظ النسيان ثم العودة السريعة إلى القسم المحفوظ بعد التكرار، ثم ضعف وأخطاء ثم العودة الأسرع إلى الأقسام المحفوظة بعد التكرار، وهكذا تستمر المحاولات إلى أن تبلغ مرحلة النضوج؛ وهي مرحلة التمكن ورسوخ المحفوظات.

وفي مرحلة الملكة تتحول الصفحة إلى مرآة صافية يتجلى فيها نص الآيات أمام نظر الحافظ؛ فتتمتع عيناه ويطمئن قلبه وتشتهي نفسه وترتفع روحه ويوقن عقله في شعور جميل وإحساس مريح، والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت، ولله في خلقه شؤون.

إن الاستمرار والمواظبة ودوام المراقبة لمجريات الحفظ تنتهي إلى الملكة، و الملكة نوع من العادة حيث يتعود اللسان على ألفاظ يرددها مراراً و تكراراً، ومن محاسن الموضوع أن أنس الحافظ والحافظة بالنص القرآني يزداد أكثر فأكثر في هذه المرحلة وتتضاعف المتعة في القراءة والتمارين. إنها لحظات إنفجار و تفجير إذا جاز لي التعبير؛ إذ تتدفق الكلمات والجمل على لسان الحافظ والحافظة بسهولة وسيولة وبصورة غير إرادية نابعة عن اللاوعي واللاشعور؛ وهذا يعني أن التكرار كلما زاد زاد معه خزين الذاكرة ولا يظهر مفعول ذلك إلا فجأة في لحظة إنفجار أو تفجير يجد الحافظ أو الحافظة نفسهما متمكنين من المحفوظات بطريقة لم يكن يتوقعها أحد حتى في الأحلام، وكأنها كرامة وهبها الله وأعطاها ووكل بها الملك بأن القاها على لسانه رشحة ربانية أو نفحة إيمانية.

وهذه الحالة عامة مع كل أنواع الآيات، الطويلة منها والقصيرة والصعبة واليسيرة.

إن في هذه النقطة بارقة أمل وتبشير لكل من تصاب ذاكرته بالإرهاق أو تبتلى نفسه بالإحباط بعد بذله الجهد الجهيد، و مازال لديه من الشك والظن والترديد ما يزعجه ويحرجه.

وهذا الأمر طبيعي لبعضهم أن ينوبه القلق والأرق، ولكن يمر العمر على مهل وعلى ملل وعلى أمل.

أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

هذه المرحلة هي مرحلة من التسامي والتعالي في عالم الذاكرة؛ حيث يتحول الحافظ إلى صاحب تجارب وخبرات وآراء ونظريات في مجال مباحث الحفظ.
إنها الملكة التي يتوج فيها الحافظ ملكاً بكسر اللام وملكاً بفتحها.

ودعائي للجميع دوماً لا يوماً، وأبقانا الله وإياكم على نهج الكتاب المبين حتى يأتينا اليقين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights