المنظومة القيمية لدى الشباب
د. رضية بنت سليمان الحبسية
تعتبر منظومة القيم حجر الزاوية في بناء المجتمعات، حيث تحدد سلوك الأفراد وتوجهاتهم، ومع التطورات السريعة التي تعيشها المجتمعات في العصر الحالي، وتغيّر أنماط التربية الوالدية بتغيّر دور الأسرة المعاصر، تتعرض هذه المنظومة لاختلالات كبيرة، لا سيما بين فئة الشباب. ذلك أن ما نلمسه من رؤية الشبيبة لماهية القيم، يثير القلق من مستقبل الأجيال القادمة التي ستكون نتاج تربية وتنشئة الأجيال الحالية. وفي السطور التالية، ستسلط المقالة الضوء على تأثير القوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على القيم، وأهمية تكامل الأدوار بين الوسائط التربوية في تعزيز القيم والتوعية بأهميتها منذ المراحل الأولى في التنشئة الاجتماعية.
تؤثر القوى الاقتصادية بشكل مباشر على القيم المجتمعية. ومع تزايد الضغوط الاقتصادية، يصبح الشباب أكثر عرضة لتبني قيم مادية تنبع من الحاجة إلى تحقيق الاستقرار المادي، وقد يؤدي هذا التحول إلى تراجع القيم الأخلاقية والاجتماعية، حيث يصبح النجاح المادي هو المعيار الرئيس للنجاح؛ مما ينعكس سلبًا على العلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية. ولا يخفى على المتأمل في سلوك كثير من شباب اليوم ذكورا وإناثا، يلحظ التغيّر نتاجًا لسيطرة الفكر المادي والمصلحة الذاتية على حساب انتمائه لمجتمع أسري، أو مجتمع محلي، فلا يلقي بالا للحضور العائلي والاندماج المجتمعي، ليشغل باله وفكره، ويقضي جلّ وقته سعيًّا لتحقيق غاياته الاقتصادية.
وتؤدي القوى الاجتماعية دورًا محوريًا في تشكيل القيم أيضا، فالتغيرات السريعة في البنية الأسرية والمجتمعية، تؤثر سلبًا على القيم التي يتبناها الشباب. فعلى سبيل المثال، ارتفاع معدلات الطلاق والتفكك الأسري، تمثل عواملا رئيسة في تأرجح القيم الاجتماعية، وتأثير ذلك على الناشئة في تشكيل شخصياتهم وقناعاتهم المتذبذة؛ مما يؤدي إلى الانحراف الفكري الذي قد يقود الفتى أو الفتاة للهجرة، والخروج عن الملة، وخلخلة قيم الانتماء والوطنية، بل والخروج على القيم الأصيلة التي تحرص مؤسسات التعليم على تنميتها لدى الطلبة، مع خلال مناهجها وأنشطتها التربوية؛ فتصبح العملية التربوية تميل إلى ركن أوحد، يتمثل في الوسائط التربوية الرسمية، وغياب دور الأسرة جزئيًا أو كليا.
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الشباب، تساهم في نشر قيم جديدة قد تكون متعارضة مع القيم المحلية، فتركز على أدق التفاصيل الحياتية، فتؤدي إلى تآكل القيم الجماعية والتضامن الاجتماعي والتماسك المجتمعي، لنشهد بعد حقبة زمنية معينة نسيج مجتمعي مغاير للثقافة المحلية، لا تألفه التربة العُمانية، بل وترفضه العقلية الوسطية التي تؤكد على التوازن بين الأصالة والمعاصرة.
كما تتأثر منظومة القيم أيضًا بالعوامل الثقافية، ففي ظل العالمية، تتداخل الثقافات وتتباين؛ مما يؤدي إلى ظهور قيم جديدة قد تتعارض مع القيم المتفق عليها مجتمعيا، وهذه الظاهرة قد تخلق حالة من الارتباك لدى الشباب، حيث يجدون أنفسهم في صراع بين القيم المحلية التي نشأوا عليها والقيم العالمية الجديدة، وهذا الصراع قد يؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي والقلق؛ مما يؤثر على الهوية الثقافية للناشئة، فتنشأ أجيالاً بلا هوية. فعلى سبيل المثال، في ظل حرص المؤسسات التعليمية للتأكيد على الموروثات الحضارية، والحفاظ عليها، تجد بروز عقليات شبابية، تقلل من قيمة تلك العناصر، فتنظر إليها نظرة جمود، وتمسك بالماضي الذي يعيق التقدم ويحقق الميزة التنافسية عالميا. وهذا التوجه يُعدّ خطيرا، إذ يشير إلى سطحية التفكير، وإسقاط قيم الموروثات، وما تحمله من ثقافات، في تأصيل منظومة ثقافية لها جذور ضاربة في القدم، انطلقت منها الحضارات والأمم عبر العصور؛ فكانت لها السيادة والريادة عالميا.
ونظرًا لكون الوسائط التربوية، كالأسرة ومؤسسات التعليم ووسائل الإعلام، أساسية في ترسيخ القيم لدى الشباب؛ يجب التكامل بينها في تأصيل منظومة قيمية شاملة، تنشئ أجيالاً قادرة على مواجهة التغيرات العاليمة. فعلى الأسرة أن تؤدي دورها بفاعلية في تعزيز القيم الأخلاقية من خلال التواصل الفعّال بين أفرادها، وتوفير بيئة إيجابية تشجع الحوار والمناقشة مع الأبناء على اختلاف أعمارهم. وعلى المؤسسات التعليمية المختلفة الاستمرار في ربط الطلبة بمجتمعهم وقيمه الإيجابية المتوارثة؛ مما يساعدهم على تطوير هويتهم الاجتماعية، ويقوي إنتمائهم لوطنهم، واحترامهم لقوانينه ورموزه. كذلك على الإعلام تفعيل دوره في ترسيخ منظومة القيم التي يقرها المجتمع، وممارسة دوره في نشر محتوى إيجابي يعزز منها، وتتبع ما يُنشر ويُبث عبر الوسائط الاجتماعية لمعالجة أي انحرافات قيمية، باستخدام وسائل وتقنيات تفاعلية؛ كمنصة لنشر الوعي بالقيم، التي تضمن التنشئة المتكاملة والمتوازنة للفرد.
إن اختلال منظومة القيم نتيجة تأثير القوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يمثل تحديًا كبيرًا أمام الشباب خاصة في ظل تراخي بعض الجهات في القيام بدورها المأمول. وهنا نؤكد على ضرورة تعزيز القيم منذ المراحل المبكرة لدى الأفراد، كخطوة أساسية في بناء جيل واعٍ قادر على مواجهة التحديات الناجمة عن تلك القوى. كما أن تكاتف الجميع، أفرادًا ومؤسسات، على ترسيخ القيم الإيجابية، تُعد ركيزة أساسية للتعاون في بناء مجتمع متماسك ومستقر.