ورحلت بنت البطلوس
بنت البطلوس، التي يُشار إليها بهذا اللقب، هي والدتي الغالية زوينة بنت مسعود بن سعيد الجابرية، رحلت تاركةً وراءها قصة من الفقد، تعجز سجلات الذكريات عن استيعاب زخم أحداثها، أثّر رحيلها على كل من عرفها، فكانت رمزًا للعطاء والصمود، مسيرتها كانت ملحمة تتحدث عن الشجاعة والتحمل، ستبقى ذكرى خالدة في قلوب من أحبها. وفي هذه المقالة، نسلط الضوء على محطات مهمة من مسيرة حياتها، التي كانت مليئة بالتحديات والآمال.
طفولتها ونشأتها
بنت البطلوس هي الابنة البكر لوالديها، من أم وأب هاجرا من قريتهم الروضة إلى شرق إفريقيا، كما فعل مئات العمانيين، سافرا بحثًا عن حياة أفضل في جزء آخر من الإمبراطورية العمانية التي كانت تنبض بالحياة لنحو ألف عام من الزمان. لقّب والدها بالبطلوس، وهو لقب يرتبط بالشجاعة والكرامة، بينما كان زوجها يُعرف بـ “ولد الغزو” لمواقف والده الباسلة خلال الغزوات في عمان.
في قصة حياتها، تروي لنا رحمة الله عليها كيف انتقلت عائلتها إلى زنجبار وهي في الشهر الثامن من الحمل، حيث كانت نشأتها في بيئة غريبة عن موطن والديها الأصلي، وقد أضحت الحياة قاسية عندما توفيت والدتها بعد ولادة أخيها الشقيق، مما ألقى على عاتق بنت البطلوس مسؤولية ضخمة، بعمر لم يتجاوز الأربع سنوات، بدأت رحلة تحمل المسؤولية، حيث انتقلت للعيش مع خالها الذي تكفل بها وبأختها الأصغر، متخطيًا العقبات بكل شجاعة.
زواجها وحياتها اللاحقة
تزوجت بنت البطلوس من رجل معروف بشخصيته القوية، نشأ في عُمان وهاجر في شبابه إلى زنجبار. وبعد بضع سنين، شجعهم الحنين للعودة إلى وطنهم، واستقروا في ولاية المضيبي، حيث بدأت مرحلة جديدة من حياتهم، مليئة بالتحديات الجديدة.
وبعد انتقالها إلى ولاية المضيبي، أصبحت بنت البطلوس الأم التي تربي أبناءها في ظروف لا تخلو من الصعوبات، وُلد لأبنائها في هذه الفترة من حياتها، وقد واجهت تحديات متعددة، حيث كانت تواجه العديد من الليالي الطويلة، تسهر فيها لتلبية احتياجات أبنائها، تبدأ يومها مبكرًا لتأمين قوتهم وتعليمهم.
عاشت بنت البطلوس معاناتها في فترة تمر بها عمان بتحديات اقتصادية واجتماعية قبل السبعينات من القرن العشرين، وبعد غياب زوجها لمدة تقارب السبع سنوات بسبب ظروف المنفى السياسي، أظهرت صبرًا لا يضاهى. وعند عودته بتولي السلطان قابوس – طيّب الله ثراه- مقاليد الحكم، استعادت مكانتها الاجتماعية في ظل دعم زوجها، الذي شاركها في تربية أبنائهما، ورزقت بطفلين إضافيين، ليصبح نصيبها من الأبناء: اثنان من الذكور وأربع من الإناث، حرصت على تربيتهم وفق منظومة قويمة من القيم والمبادئ الأصيلة، مُرسخة في نفوسهم معاني الشجاعة والكرامة.
وعلى الرغم من ضغوط الحياة، أظهرت بنت البطلوس صبرًا لا مثيل له، كانت تعلم أن كل لحظة من حياتها هي استثمار في مستقبل أبنائها، وبسماع صوت الضحكات في المنزل، كانت ترى في عيونهم الأمل الذي كانت تسعى لتحقيقه، وكانت أحلامهم تمثل الأضواء التي تضيء مسيرتها.
لم يدم الفرح طويلًا، حيث توفي والد أبنائها بعد فترة قصيرة من استعادة الحياة الطبيعية، وجدت زوينة نفسها أرملة لطفلين يتيمين، تحملت المسؤولية بكل شجاعة، لتكون لهم الأم والأب معًا، وكانت تسعى لتوفير كل ما يحتاجونه بمساندة ابنها البكر، دون أن تفقد الأمل في بناء مستقبل أفضل لهم، فقد تحمّلت تلك الأعباء بكرامة، وكان ذلك تجربة أخرى تزودت بها بنضج أكبر، كما واصلت تعليمهم وتربيتهم بأفضل صورة، مُغرِسة فيهم حب المعرفة والعمل الجاد.
ولم تتوانَ الأم الرؤوف عن إعطاء أبنائها القيم الأساسية، فكانت تؤكد لهم أهمية الشجاعة والإصرار، فقصص والدها “البطلوس” وزوجها “ولد الغزو” كانت تلهمهم ليكونوا أبطالًا في حياتهم، علمتهم كيف يواجهون التحديات بقوة، واستفادوا من حكمتها في تجاوز الأوقات الصعبة.
كانت أيضًا تشاركهم أحلامها، وعلى الرغم من قسوة الحياة، كانت تخبرهم بأهمية التعليم والثقافة، وكيف أن المعرفة هي مفتاح لفتح أبواب أكثر استقرارًا، فكانت تحفزهم على الدراسة، وتصر على أن يكون لكل واحد منهم هدف يسعى لتحقيقه.
محطة الفقد ومعاناة المرض
مع تقدم العمر، بدأت مرحلة جديدة من المعاناة عندما واجهت الأمراض تدرجًا، حتى تُركت دون الكثير من القوة، ولكن حتى في هذه المرحلة، كانت تحمل ابتسامة لا تفارق محياها، مما يشهد على نقاء قلبها ومحبّتها للحياة. لقد تركت أثرًا لا يُنسى في قلوب المحيطين بها، سمعنا قصصها وحكمها، وقرأنا قصائدها وأشعارها، التي عكست تجاربها ومعاناتها، فقد كانت زوينة هي الحكيمة مع الكبير، والمعلمة مع الصغير، مضيفةً للمحيطين بها طاقة إيجابية لا مثيل لها.
خاتمة
بنت البطلوس ليست مجرد امرأة عانت من الفقد، بل رمزٌ للصبر والإصرار، تجسدت قيمتها الحقيقية في قدرتها على تربية أجيال حاملة لمبادئ الشجاعة والعزيمة، مؤمنة بأن كل لحظة من العطاء ستثمر في نهاية المطاف. لقد كانت بنت البطلوس مثالًا للمرأة العمانية القوية، رحيلها ترك فراغًا لا يمكن لأحد أن يملأه، وقصتها ستبقى محفورة في ذاكرة أبنائها وأحفادها، هي ليست مجرد ذكرى، بل إرثٌ يستمر في إلهامهم لتجاوز الصعاب، وليقتفوا أثرها ويستمروا في مسيرتها النبيلة.