2024
Adsense
مقالات صحفية

جريمة وعسس -الجزء الثالث

خميس بن محسن البادي

تابعنا في الجزء السابق أن اهتمام موظفي الشرطة المختصين بالقضية جعلهم يشكلون فريق عمل للبحث عن المجرمين الثلاثة الذين اعتدوا على الزوجين أثناء جلستهما الخلوية.

وبذلك سعى فريق العمل هذا بحثاً وتنقيباً عن كل ما من شأنه الكشف عن غموض هذه الواقعة، فمشّطت الطُّرق والسكك والحارات، وطرقت الأبواب وفتحت السجلات، ونشرت وعممت الرسومات والبيانات، ومن بين المرافق التي تمّ البحث فيها المشافي العامة والمجمعات الطبية والعيادات الخاصة، سنَدهم في ذلك ما توفر لديهم من وصفٍ للجُناة، ونوع الإصابات التي ألحقها بهم الزوجان المجنى عليهما وهما يدافعان عن نفسيهما.

بعد شهرين ونيّف من البحث المستمر، يبدو أن الجهود لم تذهب سُدىً، فيبدو أنه قد تم التوصل إلى أول الخيوط الغامضة علّها تتكشف عنها ما يرجونه ويتمنونه هؤلاء الرجال الذين كرّسوا جُلّ وقتهم لهذه الحادثة، فلقد لاحَ لهم في الأفق ما يشير إلى أن ثمّة من تَعالج في إحدى العيادات الخاصة من جرح قطعيّ في ساعد اليد اليمنى، وبضعة كدمات شغلت حيزات متفرقة من جسده، تجلى لهم ذلك في وقت متزامن مع الجريمة، فتمّ الرجوع لسجلات الطبيب في العيادة في ذلك التاريخ، واتّضح أنه تم رصد حالة المتعالج من الإصابات التي كانت متفقة مع تلك التي أكد الزوجان إلحاقها به، وهو ما جاء متفقاً أيضاً مع ما رصده الطبيب المعالج في سجلات عيادته، وبذلك تم البحث بناءً عمّا أثبته الطبيب في سجلاته لا سيّما في المحيط الداخليّ لوقوع الجريمة، ولكن الصُّدَف في ذلك قادت إلى عدم وجود تطابق عدا لشخص واحد فقط اتضح أن عنوان صاحبه أقصى الجنوب، يبعد عن مكان الجريمة بما يزيد عن الألف كيلو متر، هذا غير العمر الذي لا يؤهل هذا البعيد من القيام بمثل هذه الجريمة، وكان من ممكن أن يتم استدعاءه إلا أن حداثة سنّه وبُعْد المكان سببيْن جعَلا بموجبهما فريق العمل والتحري يستبعدانه من دائرة بحثهما بعدم احتمالية من أن يكون ضمن أحد الثلاثة مرتكبي الجريمة، وأنه ليس الشخص محل البحث، وأن تفسير ذلك هو أن المصاب قد يكون أعطى بيانات وهمية وغير صحيحة عن نفسه للطبيب المعالج، لعلمه بعدم اطّلاع الطبيب على وثيقته الرسمية كإثبات لهويته، واستشفّ فريق العمل من ذلك أن عدم الاطلاع على وثيقة أي مريض واقعٌ متّبع في أغلب العيادات الخاصة، وهو في العادة سبباً للجوء أمثال هؤلاء لمثل هذه العيادات، حيث يتم رصد وتسجيل البيانات حسب ما يمليها المريض نفسه على الطبيب دون طلب الوثيقة، وقد عاتبوا الطبيب المعالج لذلك الشخص لعدم تحققه من إثبات شخصيته في سجلاته من واقع وثيقته الرسمية، ورغم ذلك لزم الأمر بأخذ أقوال الطبيب كشاهد إثبات، والذي أفاد بأن المصاب ادّعى له سقوطه من علوٍّ في منزله وأنه حضر لأخذ الضمادات والعلاج اللازم، ولهذا لم يعطِ الأمر أهمية مرتكناً في ذلك على ما لمسه من طيبة ولطف العشرة والمسالمة بين أفراد المجتمع والوضع الآمن المستقر، وأنه لم يدُر في خلَده أن سبب تلك الإصابة ناجمٌ عن جريمة، وقد أوضح بأنه يعرف شكل المريض متى ما رآه مؤكداً وجود تقارب بين شكله وما بحوزة فريق العمل والتحري من أوصاف عنه، ليتم أخذ أوصافه من جديد طبقاً لوصف الطبيب هذه المرة، وطبعاً لا غرابة في ذلك لأن هذا الرجل رأى المجرم في مكانٍ مُضاء وبذهنٍ حاضر غير مشتت، على النقيض تماماً مما كان عليه وضع وحال الزوجين المجنى عليهما وقت تعرضهما للجريمة، وليعود البحث عن الجُناة من جديد، وفي حين تم تزويد الطبيب بأرقام هواتف فريق العمل والتحري تحسباً لرؤيته المفاجئة للرجل مدار البحث، مؤكدين له بأنه يمكنه الاتصال بأيٍّ منهم وفي أيّ وقت، والذي بدوره وعدهم بأنه سيبذل ما بوسعه في ذلك خدمةً للعدالة وإرضاءً لضميره لعدم اطّلاعه على الوثيقة الرسمية للمتعالج وتسجيل بياناته الصحيحة في سجلات عيادته.

وفي خضمّ هذه الأحداث، نغم ترتاد المشفى من شهرٍ لآخَر لمتابعة حملها بأول مولود منتظَر لها وبعلها شهم، والذي بدا في أشهره الأولى، ومن زيارةٍ لأخرى كانت أمور الحمل تسير بشكلها الطبيعيّ، وقد ساعد هذا الحدث السعيد في حياة الزوجين إلى حدِّ ما على تخطّي الحادثة المؤلمة التي تعرضا لها والتي كادت أن تعصف بحياتهما لولا أن ألهمهما ربهما القوّة ومكّنهما من الدفاع عن نفسيهما من براثن ثلاثة من الذين أغواهم الشيطان، فزيّن لهم أعمالهم فحاولوا بذلك التعدّي على عِرضهما وتدنيس شرفهما، وهما قد يئسا من أمر التعرف على الجناة والوصول إلى أي منهم بعد مُضيّ هذه المدة التي لا شك أنها كفيلة بجعل قضيتهما حبيسة الأدراج والتخزين ودرْجها ضمن القضايا الميئوس من الكشف عن مرتكبيها، بينما ثمة جهود تُبذل من رجال عاهدوا الله والمجتمع والوطن بأن يكونوا حُماة حقٍّ لا تأخذهم سِنة ولا نوم ولا شفقة ولا رأفة في أناس دأبوا على زعزعة المضاجع الآمنة.

وبينما كان الطبيب صاحب العيادة الخاصة الذي عالج أحد الجناة يتسوق بأحد المراكز التجارية الشهيرة في المدينة وقت الرّيْم، ها هو يجد نفسه وجهاً لوجه أمام ذات الشخص الذي جاءه ليلتها يطلب العلاج، نعم إنه ذات الشخص وهو متأكدٌّ تماماً من أنه هو نفسه، وبذلك تدارك الموقف سريعاً وتجاهله ليلوذ جانباً ويتصل سريعاً بأحد أعضاء فريق العمل والتحري وعينه لا تفارق الرجل حتى لا يغيب عنه لحين قدوم رجال الشرطة للمكان، وأنهى المكالمة وظل يرقبه عن بُعد بضع خطوات من بين الأرفف والمساحات والأزقة في المركز التجاري، وفي ظرف ما لا يزيد على الربع ساعة، رئيس فريق العمل والتحري وزمرة من معاونيه على مدخل المركز التجاري يتصل بالطبيب يسأله عن موقعه فأبلغه بأنه ما يزال يتعقب الشخص في الدور الثاني، فصعد ورفاقه إلى هناك، بينما تم الاستعانة بدعمٍ بشريّ عسكري آخَر مع آلياته ظلّ متوارياً في مكانٍ مجاور تحسباً لطلب التدخل عند الضرورة، و ذلك لأن الفريق يعمل بملابسه المدنية لظروف العمل المناط بهم، وفي الأعلى داخل المتجر التقى الضابط رئيس فريق العمل بالطبيب الذي أعلمه بمواصفات ومكان وجود الهدف، وحين شاهده عن بُعد بضع خطوات وكان شابّاً ريّان البنية، متوسط القامة، فأمر الطبيب بمغادرة الموقع فيما تولى ورفاقه مهمة القبض المقنن مسبقاً لهدفهم وقد عملوا على الانفراد به بمكان منزوٍ لخصوصية الموقف وتجنب إثارة فضول المتسوّقين وعموم الجمهور.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights