مقالات صحفية

وقفات تربوية (٤) [ نعمة المال بين التبذير والتقتير ]

ثريا بنت علي الربيعية

المالُ عصبُ الحياة وشريانها، وقد أصبح يمثل الأداة التي تُكسب صاحبها المكانة المرموقة في المجتمع، لا سيما إذا كان قرينة العلم وحسن التصرف به، مثلما وصف ذلك أحمد شوقي:
بالعلمِ والمالِ يبني الناسُ مُلْكَهُمُ ** لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهلٍ وإقلالِ
ولا ريب أنّ النفس الإنسانية جُبلت على حبّ المال والتنعم به، فهو وسيلة تمكّن من بلوغ الأهداف وتحقيق الاستقرار المادي، وقد أرشدنا الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه إلى أنّ الإنسان في يوم الحساب ينتظره سؤالان مهمان عن المال وهما: “من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟”؛ وعليه يجب أن يتحرى وجوه الإنفاق ومسؤوليته نحو ذلك، لا سيما في عالمنا الذي يشهد تحولات كبيرة في شتى المجالات، تُحركها قوى المال والاقتصاد، وبالتالي على الفرد أن يواكب ذلك بالحفاظ على نعمة الأموال، واستثمارها كيفما يجب.

من جهة أخرى نسمعُ كثيرًا بما يسمى “الخطط الاقتصادية”، ودراسات الجدوى، والموازنات بين الإنفاق والعوائد، وغيرها من القواعد الاقتصادية المهمة التي يتطلب اعتبارها كأولويات توجه سبل الاستثمار الأمثل. بيد أنّ ديننا الإسلامي الحنيف ليعلو متفردًا في صياغة الأصول الثابتة والمبادئ الراسخة لتنظيم المعاملات المالية بين الناس؛ كالنهي عن التبذير والشح، والأمر بالاعتدال والتوسط في النفقة، وكذا الحث على البذل في وجوه الخير المختلفة، فقال اللّه عزّ شأنهُ: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾-
[الإسراء:29]. هذه الأحكام والضوابط تكفُل تحقيق التوازن بلا إفراط ولا تفريط، وإعطاء كل ذي حق حقه. وبالتأكيد إذا ما لازم المجتمع تطبيق القواعد في تعاملاتهم بطريقة شرعية حتمًا سينعكس أثره الإيجابي؛ كالحفاظ على ثروات المال، والقضاء على النسب المتفاقمة للفقر.

لعلّ من الضروي أن يتبصّر الناس في حُسن تصريف أموالهم وفن إدارتها، وحتى نحقق هذه المعادلة الدقيقة لا بد لكل واعي أن يكون على بينة بما يأتيه، وما ينفقه -كما أسلفنا سابقًا- بدون تجاوز، ليكون ماله مسّخرًا لمصلحته، وخدمة مجتمعه.

على النقيض من ذلك نجد الكثير من الأفراد ينفق المال على أشياء لا جدوى منها دون طائلة، للبحث عن إرضاء رغباتهم، وغيرهم متكلفين بالمجاملات والمظاهر الخادعة، حتى إن لم يكن لديهم ما يكفي من الموارد المالية، فمن المرجح أن تتراكم الديون عليه؛ نتيجة الانزلاق نحو النفقات غير الضرورية، بينما كان الأولى سد ثغرة الاحتياجات الأساسية بها.

أضف إلى ذلك ما نشاهده في المناسبات من البذخ الاجتماعي، ومظاهر السرف في الطعام والشراب والكماليات الزائدة، مما ينذر بمشكلات مالية كبيرة، بدأت تلقي بظلالها على مجتمعاتنا.

في حقيقة الأمر أننا نفتقد جملةً من القيم التي التزمها الأجداد سلفًا للعيش والتكافل فيما بينهم، فبالرغم من شظف العيش وحاجتهم إلا أنّ حب مشاركة الآخرين الخير، والإيثار، والبساطة في مظاهر العيش، والسؤال عن الجيران كانت مقدمة في تعاملهم الاجتماعي؛ مما ألّف بين قلوبهم، وجعلهم كتلة واحدة في وجه الأزمات.

ولا ريب فإننا نحتاج وقفة جادة واعية بثقافة الاستهلاك والإنفاق على مستوى الأسرة أولًا، وتربية الأبناء على حب الخير والعطاء، وتعويدهم على ضبط المطالب المالية، بالإضافة لاتخاذ القدوة في الادخار والبذل، وبناءً على ذلك يمكن تهيئة المناهج التعليمية برؤى وقواعد مالية؛ لتمكين طلبة العلم سبل الاستثمار وفق المستجدات الاقتصادية.

وقد حاولنا في هذا الطرح تركيز الصورة على أن يكون مجتمعنا أكثر وعيًا بأصل قوته الاقتصادية، والاعتدال بعدم الانجراف وراء الأفكار المادية المستنزفة للمال، بل العودة إلى المبادئ الأصيلة في التوازن بين الأخذ والعطاء للآخرين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights