وانبلج الفجر…
إسماعيل بن مسعود الراشدي
abusalman9227@gmail.com
تسمَّر العالم تحت الشاشات، منتظرًا خطاب أبي عبيدة، في مشهد ذكّرنا بخطابات القادة الملهمين، والمؤثرين العظماء على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والسياسية، وسيسجل التاريخ أنّ أنظار الدنيا توجهت لمحور الكون الآن (غزة)، كيف لا ومعركة طوفان الأقصى ألهمتنا في ملحمة إنسانية حيّة، حيث كشفت الأقنعة، ونسفت الأكاذيب، وفضحت النوايا والخبايا والأفعال، وبيّنت معدن الفلسطينيين الغزاويين؛ فالأطفال علمونا دروسًا في الرجولة والشهامة والنساء، دروسًا في الجلد والصبر، وصناعة الرجال والمقاومة، علمتنا وحدة المصير، فالجميع كالنسيج الواحد، إما نصر أو استشهاد.
ألهب شعب غزة مشاعر وأحاسيس الكون، فقدم للتاريخ أروع معايير القيم العليا؛ كالصبر والصمود، والتفاني والإخلاص وحب الأرض، في زمن أضحى فيه المجرم صفحة بيضاء، مختومة باللون الأزرق.
ظهر الفارس المقدام، بعد مئة وثلاثة وثلاثين يومًا من القتال الضاري، متوهجًا كالشمس، يحرق كل ادعاءات الخونة والدجّالين، ناطقًا بكل قوة وإقدام وعزة، يتحدث بلغة الإيمان والنصر والصمود، دون التطرّق للصعوبات والمعوقات، واستجداء المعونات والمساعدات، من الجار ذي القربى والجار الجنب، دون التطرّق أيضًا للإنجازات والبطولات في ساحات المعارك التي أصبحت واقعًا ملموسًا، اعترف به العدو قبل الصديق، وأشاد به المختص قبل المتابع العادي، وشاهده القاصي والداني، فشعاع شمس الحقيقة لا تغطيه الزوابع الإعلامية، ولا التلوث الأخلاقي والمعلوماتي، الذي مارسه الغرب، وبعض من الذين استبدلوا جلدتهم الأصلية إلى جلود نتنة، برأت منها الثعابين براءة الذئب من دم نبينا يوسف عليه السلام، ولسان حال كل الشرفاء: وأسفاه! وابيضّت عينا كل “يعقوب بيننا” رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا من قنوات، كنّا نحسبها تنقل الحقيقة بمصداقية ومهنية، فسقطت في أوحال الضمير الميت، والعسل المغشوش.
استهلّ الخطاب بآية قرآنية في إشارة للوضع الحالي في غزة، ومن ثمّ استطرد بالديباجة القسّامية، التي هزّت قلوب المتابعين، وذلك بالثناء على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم السلام على أهل غزة الصامدين، وأمة الإسلام المناصرين، وأحرار الأمة المناضلين، في سبيل تحقيق العدالة.
تلخص فحوى الخطاب أنّ المقاومة ستستمر في كل الجبهات بعون الله، على الرغم من كل الأهوال التي أحاطت بهم، والمآسي والجرائم التي ارتكبت وترتكب في حق أهل غزة ورفح، وجميع القرى المتأثرة، معنونًا الخطاب بالآية القرآنية: {…وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}-[سورة الحج]. ذات المعاني الجليلة، الرافعة للروح المعنوية، تأكيدًا ملموسًا لقرب النصر، رغم ازدياد الضرر والألم.
أردف مؤكدًا تعمّد المقاومة تهميش البروبجندا الإعلامية الصهيونية، التي تعظم من الدور العسكري الذي أباد الأطفال والنساء والشيوخ العزل، بدعم من كبرى وسائل الإعلام العالمية، والمنظمات العالمية التي تعامت بسبق من الإصرار والترصّد عن المجازر والأحداث الدموية، التي أقل ما توصف به بالسادية والعنصرية والوحشية، في حين تطالب في الوقت ذاته حماية حقوق الإنسان لأسرى الصهاينة المعتدين، وكأنّ حقوق الإنسان (الإنسانية) مرهونة بجنسية أو دين أو ثقافة.
كما فنّد الخطاب حجم إخفاقات الكيان الصهيوني في إدارة المعارك ذات الأيدلوجيات القذرة، ووجه رسالة إلى الرأي العام الإسرائيلي بأنّ حكومتهم تستخفّ بهم، بل تضلّلهم بالأوهام، وتخدّرهم بأحلام النصر المستحيل، فهيهات هيهات أن أطفالًا يعلمون العالم الشجاعة أن يهزموا، وهيهات هيهات أنّ أمهات يضحين بأبنائهنّ الشهداء، بزغاريد الفرح أن يستسلمن.
وألمح في أكثر من مناسبة أنّ الأسرى الصهاينة يعانون من معاناة الشعب الفلسطيني، في معنى واضح على بذل قصارى الجهد لحمايتهم، رغم هذه الظروف، وأنّ القاتل الحقيقي لكل الأسرى ليس المقاومة، بل الكيان الصهيوني.
وفي الختام: يروي لنا قصة النور في آخر النفق، وأنّ المشاركة في نصرة القدس الشريف هو واجب ديني وإنساني على جميع البشر الأسوياء، فمن كان على الثغور فليرابط عليها، ومن كان في الميدان فإنّ الله اشترى منهم أنفسهم، ومن جاد بالمال فسيربي زرعًا أخضر في الجنة، ومن أوتي حكمة المنطق، وقوة القلم، فليقم بواجبه، أما المقاطعة فهي أضعف الإيمان، وأقوى الأسلحة الناعمة، التي تنخر اقتصاد العدو، فالنصر قريب، وإن بعدت الشقة، والحرية كشمس النهار، وإن اشتدت الأزمات.