أفضل أنواع الاستثمار
صالح بن خليفة القرني
” لقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أن الإقناع خيرٌ من الترغيب، فضلاً عن الترهيب، وأن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم، أفضل من التعليم مع الوقار، وأن التعليم عن رغبةٍ في التكمّل أرسخ من العلم الحاصل طمعاً بالمكافأة، أو غيرةً من الأقران.
وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم: إن المدارس تقلل الجنايات لا السجون، وقولهم: إن القَصاص والمعاقبة قلّما يفيدان في زجر النفس”.
ورَد ذلك في الصفحة ١٣٨ من كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، هذا الكتاب الذي ألّفهُ عبدالرحمن الكواكبي، ويُعدّ من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر، والذي أجمع العلماء والباحثون على أنه يصلح لكل زمان. ومؤلفه من روّاد النهضة العربية ومفكريها، وقد عُرف عنه استشراف المستقبل، فمن يقرأ هذا الكتاب اليوم يجده متناغماً مع العصر، وكأنه لم يمرّ وقتٌ طويل على تأليفه.
ما يهمنا أنه طرَح قضيتان هامّتان، هما الإقناع والحرية في التعليم، والإقناع لن يتأتّى إلا بالحوار، هذا الأخير الذي هو شكلٌ من أشكال الصراع باستخدام الطُّرق السِّلمية، والحوار يصنع أُسساً سليمة في التعامل الإنسانيّ، بعيداً عن كثيرٍ من المظاهر التي باتت تُسيء إلى مجتمعاتنا، وتستخدم العنف والقوّة لفرض الرأي على الآخَر. والمتحاور بطبيعة الحال له هدفان: إمّا أن يُقنع من يحاوره بفكرته، وإمّا أن يقتنع هو بفكرة من يحاور.
ويُروى عن الإمام الشافعي قوله: “رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، وفي ذلك درسٌ عظيمٌ، هو أنه لا صواب مُطلَق ولا خطأ مُطلق، فالأمر في حقيقته نسبيّ، أوَليس يعتمد على الآراء؟
ومن أقواله أيضاً:
“ما ناظرت أحداً قطّ إلا أحببتُ أن يوفَّق ويُسدَّد ويُعان، ويكون عليه رعاية من الله وحِفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيّن الله الحقّ على لساني أو لسانه”.
فتجد أن الموضوعية والحيادية طاغية على فِكر الشافعيّ، فالمهمّ إظهار الحقّ بغضّ النظر على يَد مَنْ. فالحوار ليس نِزالاً ينتهي بخروج المهزوم، يعمد كلّ من المتحاورين على ركوب الكذب ليدعم رأيه، والتزوير ليقوّي حجّته، ولكنه نقاشٌ هادئٌ يقنع كلّ منّا الآخَر بكلّ صدقٍ وأمانة، وإن ثبت له خطأ ما ذهب إليه، سارع للاعتراف، وشكر الطرف الآخر على التوضيح.
نجد أن ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر لم تُعطَ اهتماماً تستحقه، لا سيّما حين يتعلق الأمر بتربية الأبناء، والمراهقين منهم على وجه الخصوص. أذكر منذ عدة سنوات، عندما كنتُ معلّماً، كنتُ حريصاً عند لقائي بالطلاب أن أسألهم: مَنْ منكم والده صديقه؟
تتردد الأيادِي وترتفع بضعٌ منها، وذلك حينما أكون قد أوضحتُ لهم ما معنى صديق، أي: هل تتحاور مع والدك باستمرار حتى يبدو كأنه صديق؟ حتى الأيادي التي ارتفعت أعتقد من خلال النظر المباشر للعيون أنها ارتفعت مجاملةً لمعرفتي الشخصية بالأب، فيحاول المراهق تلميع صورته أمامي، وحتى أكون متفائلاً وأميناً فهناك من يحاورون أبناءهم، ولكن بعضهم عندما يصل الابن لسن المراهقة يبتعد تدريجياً عنه، في وقت يحتاج الابن لشخصٍ راشدّ يثق به، وقد يقول قائلٌ: كيف استطعت أن تصدر حكماً كهذا؟
من خلال عملي السابق في المدارس، وتنقّلي في أكثر من مدرسة، أستطيع تمييز من اعتاد مع والديه الحوار ومن اعتاد على تلقِّ الأوامر دون نقاش، كما وجدتُ أنك عندما تتحاور مع طلاب من هذه الفئة، فإن السواد الأعظم منهم إما ذكيٌّ خجولٌ يتصبب عرقاً، لو بدأتَ تناقشه كراشدٍ أو جريء، فيه من الوقاحة ما تفتقر لأدنى درجات الذوق، فتضطرّ مُكرهاً إلى الصرامة وإعطاء الأوامر.
أمّا حرية التعليم، فمن وجهة نظري، فإن تطبيق برامج عالمية لتطوير ملَكات الطلاب، وتنمية مهاراتهم الحسّيّة، وبرامج تراعي ميولهم وقدراتهم، هذه البرامج تعتمد على الحوار والمناقشة، وتوظيف تقنيات التعليم، كالعصف الذهنيّ، وتدريب الطلاب على مهاراتٍ متقدمة، كالاتصال والتواصل وإدارة الوقت، على أن تقدم المواد بشيءٍ من المتعة، وبقالَبٍ عصريّ غير تقليدي، وباستخدام الوسائل الواقعية أو التي تحاكيها، بحيث يكون الطالب ركناً أساسياً لأداء أيّ حصّة، فلا يكون مستمعاً سلبياً كالتعليم التقليديّ.
أحلُم بجيلٍ محاورٍ واعٍ، فأسلوب التلقين والقوالب الجاهزة لم يعد مُجدياً، وسوق العمل الآن يريد حواراً ونقاشاً مُثرياً، يُخرج أفكاراً إبداعيةً، وهذا لَعمري لن يكون إلا بوعي الوالدين بثقافة الحوار، وفسحة الحرية للأبناء للتعبير عن مكنونات نفوسهم، من أفكارٍ ورؤىً تُسهم في رُقيّ أمّتنا التي تنتظر من أبنائها الذين استثمرت فيهم الغالي والنفيس.
أليس الاستثمار في البشر أفضل أنواع الاستثمار؟