التفاهة تُغْني
عبدالله بن حمدان الفارسي
(هذا زمن العجايب)، مقولة اعتادت الأجيال المتعاقبة على مر الحقب المتتالية قولها وسماعها، كلما استجد حدث ما في وقتها، تحسبه غير مألوف لها، لا سيما بالنسبة للفئة العمرية التي سبقت غيرها زمنيا، وتراه من واقع ما عاشته من فترة ماضية، ومن خلال الزمن الذي واكبته، بأن الفترة الحالية التي قُدر لها أن تعيشها، وتشهد مجريات أحداثها هي أسوأ من سابقتها، رغم التطور، والحداثة، وسرعة وتيرتها، والتنامي الصناعي، نحو ولأجل حياة أفضل؛ لتوفر سبل حياتية ذات رفاهية.
إن ما يجعل الجيل السابق يستنكر عصرنة الحياة وحداثتها الحالية، ويستنكر سبل الرفاهية التي يعيشها، ويمارس جزءا منها حسب ادعائه مجبرا، هو شعوره بأن موازين الأخلاق والنمط الأدبي لم تعد لها شوكة عادلة ودقيقة باستطاعتها ترجيح ما هو مناسب وسوي، ولا مؤشر بإمكانه الفصل بين نقطتي الحق والباطل، هذا الشعور بالاختلال الفكري والتغير السلوكي، أفقد الجيل السابق تقبل النهج المتبع من الجيل الآني، فعدم التوافق على الكثير من المواقف والسلوكيات، وتنافر الأفكار، واختلاف الأهداف أسباب رئيسة في عدم التقارب الفكري والعاطفي، وبات التضارب والتضاد أمرين طبيعيين بينهما؛ لأن لكلٍ منهما سبل مختلفة، وتوجهات لا يقبلها الآخر، وكذلك الأهداف ليست واحدة، ولا متحدة.
ربما للمادة دور كبير في ذلك، وهي حق مشروع لكافة الأطياف عبر مختلف الأزمنة، إلا أن السبل في كيفية الحصول عليها، وطرق اكتسابها تباينت، وتعددت، واتخذت مسارات مشكوك في سلامتها، وكذلك لمتطلبات الحياة العصرية أثر بالغ وتأثير واضح، من حيث التطلع بشغف على امتلاك الكماليات وحيازتها على حساب المبادئ والضروريات، ومنها وفي المقام الأول الأخلاقيات، والعادات والتقاليد بشتى أنواعها، وبناء على الاستنتاج الشخصي تبين أن أحد الأسباب هي الممارسات غير المسئولة ممن يطلق عليهم (المشاهير)، مما جعلهم في نظر بعضهم قدوة واجب اتباعها، وليس في منأى من هذا اللوم والعتاب من يقوم بدعم هذه الفئة المظللة ومساندتها فكرا، وسلوكا للنشء؛ وبسببها تأرجح ميزان الاستحقاق المبني على الكفاءة والجدارة والاجتهاد، فلم يبقَ له قيمة حقيقية، فمن يمتلك أدوات الاستعراض الرخيصة، ومقومات عرض المفاتن، وإجادة التفنن الخطابي بالكلمات ذات الإيحاءات السوقية، فتلك لها الأولوية في احتلال القلوب قبل المكان، ولها الشأن الرفيع في المجتمع. فعلا إنه انحدار خطير، وسلبي في السلوكيات، ونمو على كافة المستويات، غير مسبوق في التخلي عن القيم والمبادئ.
تنبؤات مستقبلية تكاد تلامس الحقيقة، توحي بأن القادم سيحتل الأولوية على مستوى الأسوأ من ناحية التحصيل العلمي، والمعرفي بمختلف أنواعه، فلن يكون عليه إقدام ولا ميول كالسابق، نظرا للفارق المادي الكبير، والسريع الذي تتحصل عليه فئة المشاهير، وأيضا المكانة المعنوية والاجتماعية التي تحظى بها، بالمقابل فإن المجتهد في التحصيل العلمي، والساعي لصعود منابر العمل الشريف، ومثابرة بعضهم لامتهان الحرف المهنية العفيفة، فإن دخل الفئة الأخيرة الشهري لا يتعدى ما يكسبه بمن يسمى المشهور في دقائق معدودة، أليس هذا في نظركم بكافٍ أن يكون عامل إحباط لذوي المهارات والكفاءات العلمية المميزة؟ وسببا في عدم الإقبال على التعلم والتعليم، والتخلي عنهما؟
كان آباؤنا يحثونا على العلم والتعلم، وبذل الجهد المضاعف، وقد أخذوا ذلك من أجدادنا؛ ليس من أجل النجاح فقط، بل التميز فيه؛ لأنهم يؤمنون، ونحن معهم بأن الأوطان لا تبنى إلا بسواعد أبنائها المتعلمين المخلصين، الذين لا يألون جهدا في سبيل رفعة وشأن أوطانهم، كما أن النهج الإسلامي يحث على التعلم، ومكافحة الجهل، ونبذ الأمية، وجعل من أمة الإسلام -أمة اقرأ- ومن هذا المبدأ ما يجب علينا فعله، وهو التصدي لظاهرة ما يسمى (بالمشاهير)، ومن وجهة نظري أن إطلاق هذا الوصف على من يمارس هذه الأفعال والسلوكيات المريبة لا يستحق وصفا كهذا، فمصطلح الشهرة هنا ليس بالضرورة أن يكون نتاج أعمال خالية من الشوائب، فبعض الممارسات شذوذها وخروجها عن المألوف سببًا لتوسيع رقعة انتشارها، مما يجعل من هذه الأفعال والأقوال متصدرة، ومميزة بسلبياتها عن بقية التصرفات السوية.
كثيرا ما استوقفت هذه الفئة أفكار المهتمين بالإصلاح، في محاولة جادة لكبح جماحها، ولاستئصال جذورها، ومنع مصادر النور عنها، وقطع سبل توسعها، وذلك من خلال عقد الندوات، وطرح الدراسات المستفيضة حول خطورة هذه الظاهرة ومن يمثلها ويقف وراءها من النشء ومن هم دون النضج الفكري، كما أن مما يؤلم القلب، ويحبط النفس، أن تجد مَن يبسط لها البساط الأحمر وقد بدؤوا في تزايد، وهم من يعزفون المزامير ويقرعون الطبول لها، ويمجدون ممارساتها بخلق مساحة بهدف تمكينها من الولوج للعقول المترنحة.
المؤسف والمؤلم في الوقت ذاته، أن من يبذلون الجهد، ويقدمون العطاء الإيجابي للوطن عبر أعمالهم، وجهودهم التي بالتأكيد هي من الأساسيات والمقومات التي تعود بالنفع عليه -الوطن- ومن تلك النماذج من باب الذكر لا الحصر، الأطباء، والمهندسين، ومن يتوجب عليهم حماية الوطن ومقدراته المختلفة، والمهنيين، ومن تتطلب مهامهم وواجباتهم السهر والتعب؛ لتتصبب جباههم الكريمة عرقًا لأجل أن تطمئن قلوبنا، وتستقر عقولنا، وتستريح أجسادنا، ومع ذلك فقلة من المجتمع تعرفهم، وتقدرهم، وتتفهم معاناتهم، ومدى جهدهم وخدماتهم، وتضحياتهم للوطن.
يجب على المهتمين والحريصين والغيورين على سلامة الدين الإسلامي، والمبادئ والقيم النبيلة، التصدي لظاهرة المشاهير، لا سيما السلبية منها، وعديمة الفائدة، وذات محتوى خاوٍ، لا يخدم الإنسانية، وأما مشاهير العمل الإنساني والإبداع المشرف، فحتما يستحقون منا تحية إجلال وعرفان، وتقديم كل الدعم لهم لبذل المزيد من النجاح والعطاء، وأما مشاهير التفاهة الذين يتفاخر بهم بعضهم، ويقتدي بأفعالهم، ويتم تقديمهم على النخبة والأفاضل، فهذا أمر يجب الوقوف عنده، فهؤلاء لا يتميزون بحسن السيرة والسلوك، ولا يميزون بين الظاء والضاد، ولا بين القاف والغين نطقاً، ويفتقرون للمنطق، فإن منتهى الحرفة والإجادة لديهم هو التمايل، والتبرج، وإظهار المفاتن على قارعة التسول المقيت، والتغني بأجسامهم على مسارح التفاهة، وإن نطقت ألسنتهم لأسمعت كفرا ومنكرا، أيها المعنيون بالإصلاح، أوقفوا مقاصل التفاهة قبل أن تجتث رقاب الحق لنصرة الباطل،(هذا زمن التفاهة).