من ذاكرة الطفولة .. البيئة الزراعية أفرزت صناعات حرفية
سعيد بن خميس الهنداسي
تتميز البيئة العمانية بتنوعها بين الساحلية والزراعية، والبدوية وغيرها، واشتهر مجتمعنا منذ الأزل بالكثير من الصناعات الحرفية والتراثيات العريقة والأصيلة الضاربة في القِدَم، وساهمت تلك البيئات في تحسين دخل الفرد وخلْق موارد مالية متنوعة عبر الزمان، وتُعدّ البيئة الزراعية أحد تلك الروافد الاقتصادية المهمة في فترة من فترات الحقبة الماضية، وذلك من خلال زراعة أشجار النخيل، ومن ثمّ تنوّع الصناعات الحرفية التي استفادت من مخلفاتها ومن خاماتها الطبيعية، مثل السعف والزور والخوص والليف والكرب والعسق وغيره.
ومن ذكرياتي في مرحلة الطفولة، كنت قد عايشتُ الكثير من المشغولات السعفية والصناعات المحلية، التي كان يمارسها الأهالي، فقد صنعوا منه الأثاث والأقفاص والكراسي، والعديد من الاكسسوارات التراثية بأنواعها المُتعددة، والتي تُستخدم في المنازل والمناسبات والهدايا، وصنعوا من السعفيات أو الخوص أيضاً بساط السمة بنوعياتها الدائرية والمستطيلة، والسلة والقفير والعزاف والمخرافة والمكبة والمهفة، واستخدموا العسق في صنع السلال والحصر والمكانس والمبخرة، كما أن صناعة الحبال مهنة قديمة اشتهر بها الأهالي، حيث كانوا يجمعون «الليف» الذي يؤخذ من النخيل، «ويُفتل» لصنع الحبال التي كانت تعدّ قديماً عنصراً أساسياً ومهماً في العديد من جوانب الحياة اليومية، وصنعوا منها أنواعاً مختلفة من الحبال كحبل الطلوع “الحابول” واستخدموا الليف “والكرب” الجزء المرتبط بالنخلة والسعف والزور والذي يُستعمل في صناعة الشاشة البحرية، وأيضاً استخدموا مخلفات تلك المواد كوقود للنار.
كما اشتهر العمانيون بصناعة الدعون، وأودّ هنا التركيز على هذه الصناعة، فهي عبارة عن عدد من “الزور” جريد النخيل مصفوفة بشكل مُحكَم موثّق بالحبال، ويتراوح طول الدعن بين خمسة ونصف إلى ستة أمتار وعرضه ثلاثة امتار تقريباً، وصناعته تحتاج إلى فترة زمنية يتم الإعداد لها على شكل مراحل حتى يتم إنجاز العمل بشكل نهائي.
وقد عايشتُ صناعة هذه الحرفة منذ الصغر في مزرعة جدي ومزرعة عمي، فهي تُعتَبر من الحرف العمانية التقليدية، التي كان يمارسها الأجداد، واليوم نلاحظ أن الجيل الحالي في مناطق مختلفة ترك ممارسة هذه المهنة للعمالة الأجنبية.
وتقوم فكرة هذه الصناعة على قصّ سعف النخيل وتركه فترةً حتى يجفّ، ثمّ يُجمع ويُقطع الخوص من أطراف الجريد، ثم يتم رشّها بالماء، والأفضل تخريسها لعدة أيام لتكون متماسكة وسهلة وغير قابلة للكسر وقت “الزفانة” أثناء التصنيع والاستخدام، وقد شاركتُ أثناء “الزفانة” عملية التصنيع، حيث يصطفّ خمسة أشخاص كل واحد لديه “مزفن” وهو حبل مصنوع من ليف النخيل، وشخص سادس يقوم بإحضار الزور الرطب، ويقوم الزفّينة الخمسة بلفّ الحبل على الزور حبّة حبّة في حركة واحدة وسريعة، وهكذا زورة بعد زورة إلى أن يتم الانتهاء من عمل الدعن، ثم يُترك لعدة أيام حتى يجفّ، ومن ثمّ يمكن استخدامه.
وهناك الكثير من الاستخدامات للدعون أهمها لتجفيف التمور عليها في موسم حصاد التمور “القيظ”، كذلك كانت تُستخدم في الماضي لتسقيف البيوت الطينية والمساجد، وتُستخدم لتسوير البيوت القديمة، ويُستخدم كغرفة أو خيمة ضمن تقسيمات البيوت القديمة، والتي تُعرف “بالعريش“ أو “الكرين”، وفي وقتنا الحاضر تُستخدم على شكل جلسات خارجية وعلى شكل خيمات شتوية، وتستخدم أيضاً “منامة” على شكل جلسة شعبية، وتُستخدم في “العـزب” حظائر للمواشي الموجودة في البرّ، وعليها إقبالٌ لأغراض البناء مثل الخيام والعرشان والاستراحات السياحية والفندقية والتخييم وغيرها، وتُعتبر هذه الصناعة إرثاً عمانياً لا بدّ من المحافظة عليها ونقلها إلى الأجيال القادمة.
وللدعون عائدٌ اقتصاديّ مُجزٍ، واليوم وضَحَ جلياً ما كان من اهتمام أهلي بالبيئة الزراعية، ومدى الاستفادة من معطيات الأجداد في سبيل صناعة الحياة المستقبلية، ويبدو أن الجميع لا يدّخر جهداً من أجل الاهتمام بالصناعات الحرفية والحفاظ عليها كتراثٍ وجزءٍ من الهُوية، ولكي تكون اليوم أحد الروافد الاقتصادية للبلاد، لا بدّ من اندماجها في مفردات العصر الحديث، وربطها بالماضي بما يتيح لهم إمكانية الخروج بها من نطاق تركِها للأجانب إلى اعتبار هذه الصناعات مصدراً رئيسياً لدخْل الأسرة، وثروة تراثية للوطن يجب الحفاظ عليها كما كانت في الماضي.