من ذاكرة الطفولة .. مهمة إلى حصن الخابورة
سعيد بن خميس الهنداسي
مما لا شك فيه، أن علاقتنا بأجدادنا تعد عنصراً فاعلًا في تنمية شخصيتنا، فبعض الأحيان قد لا يكون الآباء متاحين في الزمان والمكان لتربية أبنائهم بسبب التزاماتهم المهنية أو سفرهم أو وفاتهم، ويفسحون بذلك المجال أمام الأجداد ليكونوا في الصف الأمامي من أجل قضاء لحظات خاصة مع أحفادهم، ويستغل الأجداد هذه الفرصة لينقلوا لأحفادهم لذة الحياة من عميق خبراتهم ومن خلال الأعمال والأقوال أو العواطف التي ميزت حياتهم.
وفي هذا الصدد أذكر في عام ١٩٧٢م، في فترة من فترات الصيف أن جدي عبيد بن حماد-رحمة الله عليه- كان زارعا أعلاف بالجهة الشمالية من مزرعته بالخويرات، بهدف تأمين طعام للحيوانات والاستفادة من بيع جزء من المحصول لتوفير دخل مناسب للأسرة، وأيضًا ليكون وسيلة مساعدة في تغطية تكلفة الإنتاج.
وفي ضحى ذلك اليوم المشمس كنت برفقته ونحن عائدون من الساحل، وعند دخولنا المزرعة تفاجأنا بمجموعة أغنام وسط الأعلاف، وقد قضت على عدة “جلبات” بتلك المساحات زراعية، ولا زالت تأكل بحماس وهمة! فوقف جدي مذهولاً وهو يشاهد تعب الأيام السابقة من استصلاح الأرض وزراعتها وتسميدها وريها ومتابعة نمو محصولها، كل ذلك يتم القضاء عليه في لحظة من لحظات استهتار ملاكها، ثم جمع قواه قائلا: “إلى متى يا أصحاب الحلال ستظلون تتجاهلون تعبنا، لقد أعطيناكم أكثر من فرصة ولكن لا حياة لمن تنادي”، ثم قام بجلب الأغنام وطلب مني مساعدته، وأخذنا نسير بها باتجاه الغرب، ولما وصلنا خلف البيوت الغربية قبل الخور قال: “برجع أسبح وأغير ملابسي وسوف ألحق بك، فأنت قادر على توصيل الأغنام إلى الحصن؟”. قلت له: “إن شاء الله سوف أوصلها”، وكنت حينها في السابعة من عمري تقريبًا- يعني صغير جداً- إلا أنني لم أتردد في قبول هذه المهمة مع صعوبتها، فقد استشفيت بأن جدي كان واثقا ومقتنعا بأنني سأقوم بهذه المهمة، من حيث السيطرة على قطيع الغنم والوصول إلى المكان المقصود، مع أن الحصن كان بعيدًا، ومع شدة حرارة جو الصيف، فإنه كان على يقين بأنني سأتصرف تصرف مناسب عند الوصول للحصن، وإبلاغهم بالمعلومات التي يحتاجون لها والتي كان قد أخبرني عنها من قبل.
وهنا شعرت بالفخر بأنني مثلته في هذه المهمة خير تمثيل، وعند عودتي التقيت به بالطريق عند منطقة محيضيب فسألني: “كيف، هل أوصلت الأغنام للحصن؟” قلت له: “نعم”، قال: “حسنًا ارجع البيت الآن”، فكان رضاه عن ما قمت به وفعلته بالنسبة لي أكبر شهادة؛ فجدي معروف بقوة شخصيته وحزمه وصلابة مواقفه، إلا أنه يحب الإنسان الذي يسمع كلامه ويقف معه ولا يخالفه، فجدي كان مدرسة تعلمنا منه الكثير في مختلف المجالات الحياتية، فالعشرة والفترة التي قضيتها معه أكسبتني من خبرته وحسن تعامله، وفادتني في مسيرة حياتي إلى اليوم، وبصراحة ومن وجهة نظري فإن أفضل المعلمين في العالم هم الأجداد؛ فالأجداد من خلال خبرتهم يصنعون لأحفادهم المستقبل ليكونوا أشخاصًا كاملين ومتميزين وناجحين في حياتهم.