مذكرات حاج
خليفة السعيدي
بعد أن كانت تُضرب أكباد الإبل وتزهق النفوس وتكلأ الجوارح للوصول إلى مكة لأداء فريضة الحج، جاهدنا أنفسنا للتحرر من أغلال هذا العصر، من حياة المظاهر، فقاعة السوشل ميديا واللهاث وراء كل ما هو جديد…
حزمنا أمتعتنا ولبسنا أحرامنا وحملنا أنفسنا الخائرة منقبضين الصدر مستوحشين كئيبون نرجو ما عند الله، وكل منا تتطاير نفسه شوقاً لبيت الله.
أقلعت الطائرة، فشتان بين محرك الطائرة وأكباد الإبل، فسبحان مقلب الأحوال!
يُختبر الإنسان في حجة عند الطواف بالبيت، فهذا يمر مر السحاب صفاءً ونقاء، وذاك يدفع كأنه في سباق، والآخر يشتم كأن المطاف له وحده!
ولا أنسى المنشغلون بهواتفهم، كذاك الذي يطوف بجاني وهو يصيح بأعلى صوته (اللهم اغفر لجميلة، اللهم ارزق جميلة) وجميلة يا سادة تهاتفه صوت وصورة وهي تردد (آمين )… فاللهم اغفر لنا ولجميلة…! فليس كل الحجاج وفد لله تعالى؛ فبعضهم وفد لما هم منشغلون به..
لولا مشقة الحج لتحمله كل الناس، فأنت تتكيف مع أطباعهم وعاداتهم التي جاؤوا بها من بلدانهم، فهذا صلف الفكر منغلق الصدر كأن وجهه يلبس ذلك اللون الذي يغشى المنذرين بالموت، أما بعضهم فلرقة مشاعره وللطافة وجدانه وحسن تعامله إحساسًا رهيفاً سامياً تحسب أنك تعرفه منذ زمن، فالتأدب في حضرة الحجاج نصف الحج.
بدأنا مناسك الحج وأفواج الحجاج تتجه إلى منى للمبيت فيها، دخلنا المخيم العُماني الذي تتوزع الخيام فيه على حسب الشركة التي ينتمي إليها كل حاج، وكل خيمة فيها ما يقارب مئتان سرير أو أكثر، تصطف الأسرة فيها على شكل مستطيلات متتالية، الخيام مفتوحة من الأعلى قليلاً وهذا ما يجعل أجهزة التبريد لا تعمل بكفاءة خصوصاً وقت الظهيرة فيتصبب الحجاج عرقاً.
استيقظت تلك الليلة الساعة 2:30 صباحاً ليلة عرفة، فذهلت من المشهد خارج الخيمة، وحسبت أن القيامة قد قامت والواقعة قد وقعت والحاقة قد حقت من هول المشهد، طوابير الرجال والنساء على دورات المياه على مد البصر، فرجعت إلى الخيمة وقبل صلاة الفجر توضأت بقنينة ماء صغيرة خارج الخيمة، وأحسب أن الكثيرين فعلوا فعلتي لئلا تفوتهم صلاة الفجر، جهود البعثة العمانية في الإرشاد والتوجيه والتوعية الدينية ملموسة جداً فجزاهم الله خيراً؛ ولكن يحتاج لهم جهد مضاعف لتهيئة المخيمات لاستقبال الحجاج العُمانيين…
جاء يوم عرفة- والحج عرفة- وبالرغم من الحرارة اللاهبة التي تجاوزت 48 درجة مئوية إلا أن روحانية ذلك اليوم مختلفة، فالناس بين ذاكر وشاكر ومبتهل لم يستطع منع انفلات دموعه، تهدجت نبرات أصواتهم وارتفعت أياديهم بالدعاء، يسبّحون في خفوت ولكن تفضحهم عبراتهم، فطوبى لمن غُفر له ذلك اليوم…
لا شيء يحز في الخاطر ويأنب الضمير ويسبب التشويه البصري (كالزبالة) المنتشرة من قنينات الماء الفارغة والأكياس المرمية، بعد الانتهاء من الوقوف بعرفة تمشي فوق هذهِ الأكوام كأنك تمشي فوق مردم، فأعجب من وفد على الله يبتغي مرضاته وهو يشوه شعائره…!
بعد أن قضينا مناسك الحج، غادرنا الديار المقدسة بالكثير من الشجن والفرح الممزوج بالحزن، الفرح بإكمال المناسك، والحزن على فراق هذهِ الروحانية، فالحج يبعثك من جديد ويعيدك إلى ديارك بغير الحسابات التي كنت عليها، وبغير الأولويات التي كنت ترتبها، تعود بعد أن رأيت حجمك الحقيقي بين ملايين البشر، تدرك مدى تحملك للآخرين في السفر بعد أن جربت العيش في خيمة وتجردت من كل شيء إلا من ثوبان يسترانك، تألمت من انكسار الآخرين وتذللهم ورقة نفوسهم وهم يتضرعون إلى الله وأنت لغلظة نفسك وقسوة قلبك بالكاد ترفع يداك
للدعاء، وبعد أن تعود ستستقبلك الجموع وهم يصيحون بك (يا حاج)
فهل أنت تستحق هذا اللقب؟ بعد عودتك، كل أفعالك وأقوالك محسوبة عند الناس بقولهم (أنك حاج )؟؟؟ فأنت بعد الحج لست كقبله…
كما لا يفوتني أن أشكر شركة الركنين للحج والعمرة الذين لم يألوا جهداً في خدمتنا خلال أداء مناسك الحج، فجزاهم الله خيرًا، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله…
تزاحم الناس في المطار، أقلعت الطائرة، وعدنا إلى الديار، وتهنا في الحياة من جديد…