من ذاكرة الطفولة .. حياتهم أسفار
سعيد بن خميس الهنداسي
ضمن ذكرياتي، كنت والوالدة نتحدث مع خالي سالم حفظه الله، يقول: سافر العمانيون وانتشروا في بقاع أرض الله الواسعة، ووصلوا إلى أقاصي العالم، قبل السبعينيات من القرن الماضي حملتهم أقدارهم إلى بلدان بعيدة، وانتقلوا إلى أوطان غريبة عنهم، أجبرتهم ظروف الماضي التعيس للنزوح إلى خارج البلاد، نظراً للحالة المُزرية التي كانت عليها الدولة، فقد تغرّبوا لسنوات من أجل البحث عن العمل وطلب الرزق وكسب العيش، سَعَوا في أرض الله مخاطرين بأنفسهم وأرواحهم، فكانت رحلاتهم تستغرق أياماً، والبحر ليس دائم السكون، وقد تتعرض سفنهم إلى تغييرات مناخية مفاجئة، وضربات قوية، ورياح عاتية، فالسفر والعمل في بحار الخليج يُعدّ بحدّ ذاته مغامرة، وأغلب العمانيين في فترة ما قبل السبعينيات كانوا يعملون في دول الخليج وغيرها، وغالبية أهل الباطنة كانوا يفضّلوا العمل في البحرين وقطر.
وأذكر في إحدى السفرات عام ١٩٦٥م كان أبوك ضمن القادمين من البحرين المتوجّهين إلى عمان مروراً بقطر، وأنا كنت أعمل في قطر، فأخذنا سفينة إلى دبي، ومن دبي أخذنا سيارة “عريبيا” شاحنة وتسمى أيضاً “لوري” كانت من نوع مرسيدس ونوع فولفو، وكانت تتداول أخبار وصول “السفرية” أي أن المسافرين قد وصلوا إلى مشارف البلاد، والأهالي ينتظرون أقرباءهم، ولكن أحياناً تكون في الشاحنة مجموعة كبيرة من الأشخاص، من مناطق مختلفة، فإذا وصلنا إلى منطقة ما فإن الشاحنة تتوقف لينزل أحدهم وينزّل الأمتعة، حتى وصلنا الخويرات لمكان يسمى “خور العويسي” وبالتحديد “أوطي” أي شمال مزرعة سيف بن جمعة، ونزلنا نسلّم على الأهل، والآخرون كانوا ينزّلون حقائبنا وأشياءنا، وكنتَ أنتَ وأمكَ حاضران، ونزل أبوك واحتضنكَ وأنت صغير عمرك تقريباً بضعة أشهر، ثم ركبتَ أنتَ وأمكَ معهم للغليل.
ثم قالت الوالدة: أبوكَ اثناء سفره عمِل في البحر لسنوات، والعمل في البحر فيه نسبة مخاطرة عالية، ثم عمِل في مزرعة الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة، إلا انه كان حريصاً على أن لا تزيد فترة غيابه عنّا أكثر من سنة، وأحياناً أقلّ من ذلك، مع أن أغلب الذين يسافرون للعمل في الخليج كانوا لا يعودون إلا بعد سنتين أو أكثر، ومنهم من يكمل أربع سنوات وزيادة، كما أنه كان أحياناً يقضي معنا ما يقارب من ثمانية إلى تسعة أشهر قبل سفره التالي.
وأذكر في عام ١٩٦٥م أثناء سفرهم تعرّضوا للكثير من المشاكلات، بعد مشوار رحلتهم الطويل لدبي، ثم بحراً إلى قطر والبحرين، وبعد وصولهم البحرين تمّ إرجاعهم بحجة مشكلة في جوازات السفر، ثم عادوا لقطر ودبي ثم عمان، وبعد ذلك راجعوا إدارة الجوازات بمسقط وعالجوا الإشكالية، وبعدها سافروا مرة ثانية في رحلة متعبة وشاقّة عليهم بلا شكّ، ومكلفة مالياً ومعنوياً.
وأذكر آخر رحلة له رحمة الله عليه، كان عائداً من البحرين عن طريق قطر بحراً، ومن قطر براً مروراً بمركز أسود العمانيّ، وذلك في ٨/ ١٢/ ١٩٦٦م أي قبل وفاته بأشهر قليلة، والمرض بادٍ عليه، والرحلة إلى البلاد يبدو قد أرهقته أكثر، لذلك لم يستطع البقاء معنا لفترة أطول، بعدها زاد عليه المرض، فأخذه أخوه عبدالله ليعالجه في مستشفى الرحمة بمطرح، ولكنه بطبيعته كان يخاف من المستشفيات، ثم قرّر أن يسافر إلى البحرين للعلاج بسبب تقدّم الوضع الصحي هناك، ولم نكن نملك تكاليف السفر، وصحته كل يوم تتدهور، كما أنه لا يحتمل السفر في الشاحنة والبحر، فلما لاحظت إصراره على رأيه، أخذت بعض الفضيات التي عندي ورهنتهم، والمبلغ الذي حصلنا عليه سلمته لشقيقه عبدالله، حيث حجز تذكرتَي سفر على طيران الخليج في أبريل عام ١٩٦٧، بعد أن قضى معنا أربعة أشهر فقط، ولم يعد بعدها.
فهكذا هي حياتهم، قضوها كلها أسفاراً، بين سفر المغادرين وسفر العائدين، مضت بها الأيام وتعقبها السنين، وبداخلنا بقايا من مشهد أسفار الراحلين، فالقلب ينادي الغائبين ويرد عليه الأنين، هل سيعود المسافرون؟