2024
Adsense
مقالات صحفية

مقامة ((جوهر))

د. أحمد محمد الشربيني

حدثني درعمي نضير يدعى عبد البصير : عندما شخصت ذات صيف لأبي قير، خالطت من الرفقاء الغني والفقير والحضري الأنيق والريفي الشفيق، وكنا نسكن معسكرًا لجامعات مصر يأتلف أشبالها ويحتقب شبابها من كل قرية ومَصر ووسط هذه الجموع والأحشاد، التي وطَّأ محشرها ربُ العباد تعرفت على فتىً أسمر يدعى جوهر، تقاسيمه أصيلة ساقه نحيلة؛ فرق قلبي لصداقته وزدت منه تقربًا لوقاره وبساطته.
كان يحدثني كيف أنَّه وحيدٌ على قوارير ستة، وأن أباه قبيل الوفاة، بزيجات أخواته أوصاه، وأنه ما حلَّ بأبي قير إلا هربًا من الهم والتفكير جراء ذاك العهد الخطير!!
فجاء إلى هنا من أقاصي الصعيد؛ ناشدًا السكينة بهذا الصعيد؛ ليفكرَ ويدبرَ الحال، عله يستلهم من البحر الآمال فتهدأ عواصف همه العضال وينعم شراع قلبه براحة البال.
فبتنا في الخيمة ليلتنا وحديث الذات يذكي صداقتنا وشريط الذكريات يزكي غبطتنا واللهجة الريفية تبارك رفقتنا وصحبتنا وقاموسها المشترك يعضد ألفتنا ومودتنا، ولا غرو في ذلك؛ فما كان أبدًا بين الشرقاوي وصنوه الصعيدي شقاق وخصومة ولم لا وكلاهما نتاج نسب وعمومة تباركها ألفة مرحومة ونخوة موسومة.
فلما نفض الصبحُ عن الوسنِ غباره وأسبغ قرصُ الشمس على الكون أنواره ويرَاره، كاشفًا عن البحر لثامه و نهاره جاءني جوهرٌ وبيده سِنارة!
فأخذت أتقلص من ثيابي مجهزًا للبحر عُدَّة الذِّهابِ
وسرنا بثوب رياضي مُريح فوق رملٍ ناصعٍ مَليح حتى انتهينا إلى شاطئ فسيح، يساجل الموجَ بصخرٍ كسيح، وأخذ جوهرُ يجيل النظر في البحر، صامتًا… هائمًا كالواقع في شَرَك سِحْر، وما لبث على الفور أن اتخذ قراره فخلع بنطاله وإزاره وعن قميصه ردع أزراره وما أن تحلل من ثقيل ملبسه إذا به قد لفظ سنارته من يده، وناداني حَفيًا كي ألاحقه في عناق الموج، فانتظرت مليًا ريثما يأتي معظمُ الفوج.
فشرعنا نسبح على قيد مترات، ربيئنا القاع، عدونا قنديلٌ أو حصوات.
فبدا الموج هادئًا صافيًا وعلى أجسادنا حانيًا ضافيًا حتى خلته متوقفًا عن الحراك وكأنه يقودنا إلى دَغل هلاك!!
بيد أن جوهر بما عرف عن سمته وشعاره أبى إلا أن يوغل في اجتياز الموج وعثاره؛ كي يباغت البحر في عقر داره.
وكم كان هذا الصعيدي بما عهد من خِلاله يقطع عبري النيل كمنواله.. فأخذت أرقبه عن كثب حتى ألفيته من جلمود صخرٍ يهفو ويقترب.
فاطمأن قلبي وهدأ روعي، ثم خرجنا إلى السطح نافضين على الشاطئ مرارة المِلح، وهجمنا كالطُغام على الطعام، ثم أسلمنا للرمال الرؤوس وهَوَّمنا كثملي الكؤوس فتخالنا كجثةٍ هامدة عليها بعوضٌ يدعو ناديه.
وغط الجميعُ في غمضهم خلا عيني أبت أن تحذو حذوهم، وكأن شيئًا قد علق بذهني فمنع الرقاد أن يهادن جفني؛ فقد تذكرته بنبضٍ وجل، فانتصبت قائمًا على عجل، وقلت في نفسي شاحذًا حدسي: رباه!! إنه ليس بين أجساد النوَّام ولم يشارك الأَكَلةَ معركة الطعام!!!!
فطار قلبي إلى الأحداق وضيق على صدري الخناق، فتركتُ مِظلة الرفاق، وطفق ناظري يجوب الآفاق؛ لأباغت الشاطئ بنظرات متقطعة فترتد علي بخطرات متفللة، حتى بدأت الشمس تجر أذيال الرحيل، فأيقنت ساعتها أن مُكثه في البحر عينُ المستحيل والخَطلِ الوبيل؛ فأطلقت العنان لخيالي ذاهلاً عن أمري وحالي:
فلعله خرج ليملأ جوفه الخالي، ولما أبصرنا قد نمنا وعلى طعامه أتينا وأجهزنا، ذهب إلى(طعمجي) ذي (فَوَّالة) ليسدَ ثغرة معيه القتالة؟!!
وبينما أنا قابعٌ في تلكم الهوة الماكرة تنوشني الخاطرة تلو الخاطرة كوقع عربات قاطرة على قضبان ٍ خائرة.. إذا بي ألتقط إنذار صافرة!!
فصوبت حواسي دفعةً واحدة تلقاء الصيحة الشاردة، لأرى (برَّاج) الإنقاذ يشير إلى ناحيةٍ نكداء ملوحًا برايةٍ حمراء يشيعها صراخٌ يملأ الفضاء قائلاً في عناء:
غريقٌ يصارع الأمواج، غريق يصارع الأمواجَ!!
فانطلق الغواث صوبه زرافاتٍ وأفواجا..
ساعتها تذكرت الصخرةَ وجوهر!! وأن المد قد تضخم وزمجر بعد أن أعذر الجزرُ وأنذر… فلا منجى ولا وزر من الغول المُنتظر!!
فأسرعت على عجل بقلبٍ وجل تسبقني دموع مكلومة لأبارز أمواجًا محمومة.
وكلما توغلت ذراعًا قهرني الموج باعًا، حتى أخذت الأمواج تترى كالجحافل لتباغت المنقذين والمسعفين من عالٍ وسافل… وكلما دنا واحدٌ من أخي الغريق تقاذفته الأمواج كالمنجنيق، فتلفظه إلى الساحل ملكومًا، وترديه مكلومًا ومن نشوة الإنقاذ مهزومًا.
ثم رضخ الجمع لغلبة البحر وسطوة المد والنحر وهم ينظرون إلى رفيقنا المسكين بحسرة يندى لها الجبين، مكبلين بالفشل والخجل يرتقبون قدره القادم على عجل ومصيره القاتم بلا أمل!!
وكنت ساعتها أقف متسمرًا في الماء تارة أرقب شاطئ العناء صائحًا بين الغوغاء وتارة أخرى يرنو دمعي في رثاء لذالكم العالق في الماء متوجهًا بمدامعي إلى السماء.
وكم مرت دقائق معدودة كأنها سويعات منكودة!!
وأنا خلالها أرقب جسده الخائر ينهار أمام طوفان غادر، لقد حاول أن يتشبث بأهداب الأمل؛ فجمع أشتات قواه على عجل، وكم جاهد السباحة بكلتا يديه فأوقفت لدغة قنديل إحدى قدميه، فاجتمع عليه صُراخا اللدغ والغرق يشيعهما عويلُ نَوارس الغسق ورنينُ أشباحِ أشرعةٍ تلوح على الأفق في لُجةِ الشَّفق، حتى كبسه الموج بغاراتٍ َمتتالية : موجة شعواء، غطسة حانية، وسرعان ما طفا جفنه ليتوسل القدر فعصبته الأمواج حيث المستقر!!!
وبعد دقيقة تحت الماء لاحت رأسه يَصَّعد منها النداء… عاليًا… هادئًا… خافتًا إلى السماء… وما لبثت هامته أن ودعت دنيا الكروب وبدأت رأسه في الغروب يشيعها قرص الأصيل لمثوى الهروب!!!
وكأني رأيت عينه تحدجني قبل الغرق: انقذني… انتشلني… الآن المفترق!!!
ثم حال بيننا موج عَرِم كتسونامي يطاول هام القمم عانق جوهر ثم فارقه وبعد ضمة للقاع أسلمه وأغرقه…. فتلاشت الخطرات وأظلمت النظرات وانمحت عن (رادار) الأمل أية إشارات هنالك تفجرت مني العبرات وعلت الآهات!!
ثم مضت الموجة حتى الساحل وارتدت كمهاجم الكرة الباسل، بعدها هدَّأ البحر من روعه المجنون، فسربل صفحته بكفن السكون!!
فأمسى القاع صدفة لجوهر، وأصبح معسكرنا عطلاً من التفاؤل والجوهر، الحزن يعنكب في كل مكان، كموجٍ بلا شطآن، وفُلك بلا ربان… فوجدت نفسي أنتحي معسكرًا شرقيًا مخرجًا من حقيبتي كتيبًا درعميًا منسيا عله يسليني ومن سهام الكآبة ينجيني ويحميني، فأهرب من مجرة الحزن إلى ساطع أملٍ أو بارقة مزن تضئ ظلمة حزني وتستل ران الفجيعة من قلبي… فإذا بي أطالع ابن حمديس يرثي بأبيات مؤثرة حبيبته جوهرة:
يابحرُ، أرخصت غير مكترثٍ
***من كنت لا للبياعِ أُغْليها
جوهرة كان خاطري صَدفًا
***لها أقيه به وأحميها
أبتها في حشاك مغرقةً
***وبتُ في ساحليك أبكيها
ونفحة الطيبِ في ذوائبها
***وصبغة الكحل في مآقيها
عانقها الموجُ ثم فارقها
***عن ضمةٍ فاضت روحها فيها.
ويلي من الماء والترابِ ومن
****أحكام ضدين جُمعا فيها
أماتها ذا وذاك غيرها
***كيف من العنصرين أفديها؟؟
ساعتها أيقنت أن جوهرًا ليس وحيدًا فجوهرة الأندلس ستمسيه سعيدًا
وتذكرت قول الحبيب المصطفى والنبي المجتبى
ﷺ :”الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ؛
وَمَا تَنَاكَرَ منها اختلف”
فأطبقت الكتاب فَرِحًا وحثني القلم عَجِلاً على الخروج من زنزانة الحزن والضيقِ مصورًا حادثة أخي ورفيقي علها تصله في زجاجة عائمة أو رؤى صادقة حالمة ولسان حالي يؤبن الفقيد الغالي:
يا بَحْرُ كَمْ أَعْليتَ من أغْمَارِ
*وسَجنت فى الأَعْماقِ من أعْمَارِ!!
الفُلْكُ فيك تَزُفُّهُ فى هَيْبَةٍ
*****والمَوجُ فيك تَبُثُّهُ بفَخَارِ.!!
والريحُ تَسْتَلِمُ الشِّراعَ وقد عَتَتْ
**فمَضَى يَجُوسُ مَكَامِنَ الأَسْرَارِ.
والشَّمسُ أدْمَاهَا الأَصِيلُ فَلَمْ َتزَلْ
**تُلْقِى السَّلامَ بِعَبْرَةٍ وَوَقَارِ!
ولَكَمْ تعَاقَبَتْ الدُّهُورُ سَرِيعَةً
**نَمضى كما تَمضِى مَع التَّيارِ!
ولكَمْ تقَاطَرَتْ الجِرَاحُ طَرِيدَةً
*مِلْءَ المُحِيطِ مَلاجِئٌ وجَوارِى!!
يا أيُّها الرُبَّانُ رِفْقًا بالنَّوى
******إنِّى أرَاكَ تَتُوقُ للغَدَّارِ!
يا أيُّها القُرْصَانُ مَهْلاًه هَهُنا
******إنِّى أرَاكَ تَشُدُّ للأَخْطَارِ!
أمَا لنا مَوْجٌ يُعَانِقُ قِصَّةً
**هَرَبَتْ مِنَ الأَنْوَاءِ والأَمْطَارِ؟!
تَهْفُو لِقَارِئِهَا فَهَلْ مِنْ نَظْرَةٍ
**أَجْلُو بها ما خُطَّ مِنْ أَحْبَارِ؟!
فالحُبُّ مَقروءٌ وإنْ طالَ المَدَى
**لا بُدَّ في سُجفٍ من الأَقْدَارِ!
وما أن كتبت أبياتي الصادقة حتى بشرنا الغطاسون باستخراج الجثة الغارقة هنالك اهتز
المكان وتجمع الشبان لتجهيز الأكفان وحمل الجثمان وأبى الجميع أن يُسلم للمشرحة لأن وفاته ناصعة واضحة وشيعوه في سيارة مصفحة وقبيل حمله إلى سيارة نعشه التي ستقله إلى مسقط رأسه وجدتني أصر على إلقاء نظرة الوداع فكشفت عن وجهه القناع… فإذا بوجهه النحيف قد استدار وعلى ضوء القمر تبسم واستنار وكأنه يخبرني بما لاح له من أسرار وانكشف له وراء الحجب من أستار، ساعتها تذكرت وقتها بشارة النبي المختار بأن الغريق من الشهداء الأبرار!!
دكتور/ أحمد محمدأحمد الشربيني
جمهورية مصر العربية
_______________
معاني بعض الكلمات:
درعمي: أي من تخرج في كلية دار العلوم جامعة القاهرة وتطلق على من ينتسبون إليها والكلمة شائعة في الإعلام والدراما المصرية.
أبو قير: ميناء وشاطئ قريب من مدينة الأسكندرية بشمال مصر.
طعمجي: كلمة مركبة من لفظتين:”طعمية” العربية واللاحقة التركية “جي” بمعنى صاحب ويقصد باللفظة صانع الطعمية وبائعها وهي وجبة شعبية مصرية للطبقة المتوسطة عبارة عن عجينة تقلى في الزيت قوامها الفول والبصل وبعض التوابل.
الفوالة: اسم آلة يطلق في العامية المصرية على قدر الفول المعدة لتجهيزه وطهيه على الموقد.
البرَّاج : كلمة فصيحة تطلق على عامل الإنقاذ الذي يعتلي برج المراقبة لتفقد المصطافين والتنبيه عليهم من حين لآخر وقت المد والجزر.
ابن حمديس: شاعر أندلسي فقد جاريته جوهرة التي ماتت غرقًا في مياه البحر المتوسط فرثاها بتلكم الأبيات الحزينة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights