إلى صديقتي التي لم تعد صديقتي
بلقيس البوسعيدية
ظننتكِ مختلفة عن كل الذين دخلوا حياتي وأصبحوا جزءً عظيماً منها، واحتلوا مكانة رفيعة في قلبي ثمّ أفَلو. حسبتكِ فهمتِني وأدركتِ خفايايَ التي أخفيتها عن أكثرهم، وعرفتِ سرّ روحي الذي لم أبُح به لأحد سواكِ. لن أقول إنكِ قد خيّبْتِ ظنّي، بل سأقول الحقيقة المُرة، سأقول ما هو أبشع من ذلك بكثير، “لقد كسرتِ قلبي”، وهذا أقسى ما وجدته منكِ منذ اللحظة التي صرنا فيها متشابكتَي القلوب والأصابع على أرصفة هذه الدنيا، جعلتِني أسيرةً للخوف من جديد، بعدما كنتِ ليَ المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالانتماء والأمان، كنتِ سكني واطمئناني ومؤنٍستي اللطيفة والأثيرة إلى نفسي.
لقد تغيّرتْ نظرتي للحياة في اللحظة التي جمَعَتني بكِ، وها أنا ذي الآن أجد بأن أفكاري قد تبدلت أيضاً في حضرة غيابكِ البارد هذا، تغيرتْ قناعتي في الكثير من الأشياء وفي العديد من الأشخاص، أصبحتُ أنظر لأمور الحياة نظرة مختلفة لم أعهدها في نفسي من قبل، ولربما أنني كنت أنظر إليها طوال اللحظات التي جمعتني بكِ بعيون قلبكِ لا بعيون قلبي، قلبكِ الذي غمرني بالدفء وأوقظ فيّ رغبة العيش من جديد ولعمر مديد. جعلتني أتشبث بالحياة بعد إذ كنت قبلكِ جسداً فارغاً هامداً، وروح معذّبة معلّقة على مشنقة اليأس، لقد بدّدتِ خوفي يا صديقتي القديمة، ونزعتِ مني أسوأ الأشياء التي كانت تطفو ببشاعة على جبهة حياتي، لن أنساكِ ولن أكون ناكرة للجميل لمجرد أنكِ كسرتِ قلبي الذي أحبكِ بشدة، لا أنكر أنكِ قد كنتِ ليَ شيئاً جميلاً في الحياة، صديقة ودودة ولطيفة ومهذبة جداً، كنتِ الشخص الوحيد الذي رجوتُ من اللحظات أن تقف بي معه، كنتِ ملاذي الآمن والكتف التي أسند رأسي عليها وأنا على يقين تام بأنها لن تميل، رفعت معكِ سقف طموحاتي، وشاركتكِ أسراري وأمنياتي وحكايات طفولتي وشقاوة صباي، أحببتكِ وأخلصت لكِ لدرجة أن جعلتكِ جزءً جميلاً لا يتجرأ من أحلامي التي أودّ لها الآن أن لا تتحقق لأنه لم يعد لكِ وجود فيها. تنازلتُ عن أشياء كثيرة كنتُ قد تمسكتُ بها بعناد طفل لأجلكِ فقط؛ خشية أن يمسّكِ منها حزن أو شعور بأنكِ وحيدة وعاجزة عن امتلاك ولو شيء بسيط مما يقبع بين يدي، أردتُ لنا دوماً أن نكون متساويتين ومتشابهتين في الكثير من السمات والرغبات والأحلام، وحتى إنني كنت على وشك أن أخلع ذاتي وأن أكون نسخة طبق الأصل عنكِ، كدت أن أضيع نفسي في سبيل الوصول إليكِ.
عشت معكِ بكامل صدقي ووضوحي، كنت شفافة للغاية، ولكنكِ أنتِ لم تكوني صادقة معي بما فيه الكفاية، لم أكن أتصور بأنكِ كنتِ تنظرين إليّ دوماً نظرة استصغار واستهجان واستغراب، لا أفهم حتى هذه اللحظة كيف استطعتِ أن تخفي حقيقتكِ عني وأنا التي كنت أغرق في تقاسيم وجهكِ ونظراتكِ طوال الوقت الذي نصير فيه معاً على طاولة واحدة أو أمام مشهد حقيقي أصيل، لا أدري ما الذي جعلني أؤمن بكِ إلى هذه الدرجة من الإيمان والقداسة. صدقيني يا صديقتي القديمة، لم أكن من قبلكِ هكذا، كنت الإنسانة التي تحسب لخطواتها ألف حساب قبل أن تُقدم على أيّ خطوة جديدة، شخص لا يثق بسهولة ولا يترك قلبه عارياً أمام أحد سوى نفسه من بعد خالقه، أنا الصامتة الساكتة التي لا يشعر بوجودها أحد، ولا يبحث عنها في حين غيابها أحد، كيف استطعتِ أنتِ أن تحتلّني وتتدفقي في أوردتي بسلاسة وخفّة وأن تتفرعي في صدري حتى أصبح نزعكِ مني أمر في غاية الألم والقسوة؟!
أتذكر ما كانت تخبرني به أمي كلما ودعت عزيزاً في حياتي: “يا ابنتي، يدخل في حياتنا أشخاص نحسبهم ثابتون كالشجر، لا يتزحزحون مهما عصفت الرياح وتبدلت الفصول، ولكننا ومع أول عاصفة تهب علينا؛ نجدهم يتساقطون من قلوبنا كورق الشجر، يختفون من حياتنا تماماً، لا لأننا لم نكرم مثواهم أو لأننا لم نمنحهم الحب الكافي، إنما يختفون لأنهم لا يعرفون الحب ولا يقدّسون المشاعر ولا يحترمون العلاقات الإنسانية، حتى وإنّ بعضهم لا يستطيع العيش في الضوء وأنتِ يا ابنتي مضيئة، مضيئة جداً، والضوء يقتلهم من الداخل. أحياناً يكون رحيل من نحبهم بمثابة طوق نجاة لنا، ففي حين رحيلهم؛ تتفتح أمامنا نوافذ من نور تطل على مساحات شاسعة كنّا نجهلها ونجهل فتنة الجمال الكامن فيها، نجهل معانيها العظيمة وروعة تفاصيلها ودفء لحظاتها ونحن بقربهم. من نحبهم يا ابنتي، يقيدوننا من الداخل، يصير وجودهم في حياتنا كجدار عملاق يحُول بيننا وبين جمال الأشياء في الطرف الآخر من الحياة. لا تبتئسي ولا تحزني عندما تخسرين صديقاً أو حبيباً، فلا أحد يدوم لأحد، لا أحد منا يشبه الآخر، إننا مختلفون، مختلفون جداً.
الآن أدرك كم كنت عمياء وأنا بجانبكِ، لم أبصر الجمال الذي يقبع خارج حدود حكايتنا والتي على ما يبدو أنني كنت فيها مجرد حرف معلّق على سطر حكاية قصيرة لم يشأ الله لها أن تكتمل. رحيلكِ علمني أشياء كثيرة كنت أجهلها في نفسي، جعلني أرَ الحياة بعين لا تبصر إلا الجمال، أدركتُ قيمة الأشياء التي عشتُ جاهلة روعتها لسنين طويلة، برحيلكِ يا صديقتي القديمة، تجددتْ أحلامي وتبدلت قناعتي أيضاً، وتغيرت نظرتي حتى لنفسي، عرفت قيمة ذاتي وأنا بدونكِ، تحررتُ من قفص حكايتنا وأنا الآن وفي هذه اللحظة تحديداً، أشعر بأنني حرة تماماً ولا شيء يقيدني، لا مشاعر، لا علاقات، لا ماضٍ، ولا حتى ذكريات.
لطالما أخبرتكِ بأنني لا أتخيل لحظة من حياتي بدونكِ، وأنني لن أستطيع أن أحيا في غيابكِ سوى لبضع دقائق محدودة أستوعب فيها دهشة غيابكِ، ولكن ها أنا ذي اليوم أضحك بدونكِ وأتنفس الحياة في غيابكِ، ما زال قلبي نابضاً وعيناي تبصران وجه الحياة بدقة، لقد اكتشتفت برحيلكِ تلك القوة الكامنة فيّ، القوة التي تجعلني ألتقط أنفاسي كلما تبعثرتُ وغدوتُ رفاتاً في مهبّ الريح دون الحاجة لمن يسعفني، تعلمت كيف ألملم فُتات روحي، وكيف أصبر وأتحمّل ألم ولادتي من جديد بعد كل قصة لا تكتمل، ولا أخفي عليكِ أن غيابكِ أفجعني وآلمني إلى حد الموت، ولكنني وفي هذه اللحظة تحديداً أودّ أن أخبركِ بأنني قد تجاوزت الألم وعذابات نسيانكِ، وتقبلت غيابكِ وغدوت شخصاً آخر، شخصاً قوياً، حذقاً، حذراً، لا يثق، لا ينكسر ولا ينهزم بسهولة.
عندما تسألني أمي عنكِ، سوف أجيبها بابتسامة عميقة باردة من قلبي: “ما عُدنا صديقتين يا أمي، انتهت حكايتنا، وما عدنا صديقتين.”