ومن الدلال ما قتل…

إلهام السيابية
نظرت الأم الثكلى لجثمان إبنها بعد ان أزاحت بخوف وتردد الغطاء عن وجهه و أخذت تقبله مودعة باكية ، وهي تصيح وتنوح :كم إنتظرتك كل تلك السنين التي عانيتها بسبب زوجي واهله ..
كم كانوا يصرون على أبيك للزواج بأخرى ليحضى بالولد …لم يكتفوا بالسبع البنات التي رزقنا الله بهن ، كانوا يبحثون عن الولد ، وكأنني أنا من أشكلهم وأصورهم وأخترت أن يكونوا إناثا ، نسوا أن الرزق بيد الله ..والواهب هو الله ..والمعطي هو الله..فأرضاني الله ورزقني بك فأسميتك وحيد ، فقرت بك عيني .. واطمئن قلبي ، فمن رضي بأمر الله أرضاه الله .. ووكلت أمري للواحد الأحد ، الخالق المصور.
وفي فترة حملي كنت أمسح على بطني وأقول : اللهم وكلت أمري إليك اللهم فلك الحمد على كل حال وسلمنا من سوء الحال .. وها أنت الآن أمامي ملفوفا بالكفن ، ينتظرك الرجال ليحملوك على الأعناق ، ليأخذوك للقبر ، حيث يوارى جثمانك فيكون فراشك التراب وغطاءك التراب .. قم يا بني .. قم لقد سامحتك عن كل هفوة وغلطة ..عن كل كلمة وهمسة ..وعن كل فعل أغضبني ، أو نظرة أزعجتني… سامحتك .. يامهجة قلبي وونيسي … سامحتك يا حبيبي ، وأغلى أمنياتي…لما لا تجيب ؟؟ ولكنه لم يجب على توسلاتها فقد بقي جثة هامدة أمام ناظريها … مصفر البشرة … متجمد الجسد … والكدمات تطغى معظم جسده… ملفوفا بكفنه وتفوح منه رائحة العود و الكافور .. أمسكت بكفنه بكل ما أوتيت من قوة … وأخذت تبكي وتصيح ، والحزن يحرق قلبها مودعة أياه لمثواه الأخير .. وجدته أمام باب البيت مرميا والدماء تسيل منه .. تلفظ بإسمها في أنفاسه الأخيرة وهو يقول : سامحيني .. يا أمي … سامحيني يا أمي … كم حاولت إسكاته ووضعت يدها على شفتيه وهي تقول له : حافظ على قوتك يا حبيبي إلى أن تأتي سيارة الإسعاف ، ولكنه أمسك بيدها ضاما و مقبلا … ثم أخذ يردد و يقول بكلمات متأتأة : الجنة.. تحت.. قدميك يا أماه ..فصرخت لكل من حولها… احملوه لأقرب مستشفى
أحست أن الموت سيسرق إبنها فحاولت الإسراع بأخذه ولكنه في هذه اللحظة.. فارق الحياة. . وعيناه شاخصتان بالتحديق إلى وجهها.. وهي تقبله وتبكي مستغيثة ودموعها تنهمر على وجهه الدامي.. المشحون بالألم والحزن ..
تهادى إلى خيالها طيف الكثير من الذكريات … وهي في غرفة الولادة بعد ان أتعبها مصارعة ألم المخاض ، وأيقنت ان الأمر إما بروحها او بروح جنينها ، فدقات القلب لديه بدأت تتباطأ …
رحماك يا الله .. رحمتك … عفوك …
أخذت نفسا طويلا … جمعت كل ما تبقى لها من قوة … ثم زفرت لتدفع بطفلها الرضيع خارج رحمها … يبكي الطفل بكاء مرا … وكأنه معارضا إخراجه من قوقعته إلى ذلك العالم الغريب والجديد عليه لم يألفه بعد لقد استوطن تسعة أشهر في أحشاءها ..غير مبالية بالاوجاع… وسهر الليالي ومراجعة المستشفيات ففرحة اللقاء أنستها تلك الآلام وها هي الآن تبكي عليه … بعد كل ذلك الإنتظار الذي طال أمده ، وخواطر أحلام عايشتها مع سنين العمر ، وتذمر زوجها بكثرة البنات .. أخيرا رزقها الله بالولد الذي تقر عينها و رد لها روحها ، وقضى على الأوهام التي يئست منها ورفعت من معنوياتها.
بدأت الأم بالصياح والبكاء من جديد فها هي تراه يركض أمام عينيها طفلا جميلا في ريعان شبابه… وهبه الله من الجمال اشمله ..فكم كانت فرحة والده به أشد فرحا من أمه … فهذا الإبن الذي طالما أنتظره طويلا ، ليحمل إسمه واسم العائلة واطمئن واستأنس به لأنه سيكون وريثا لأمواله وتجارته بعد عمر طويل … وكم تعاظمت فرحة أخواته بأخيهن ، فكانت لا توصف … الكل يهلل … ويدعوا الله وقلوبهم تبكي فرحا وشوقا لوصوله وهاهن الآن يبكين حزنا وألما لفراقه فالدموع تحجرت في المآقي غير مصدقة ولا يستطيع العقل تصور ما حدث.. تربى وحيد على الترف والدلع والدلال … لم يترك معتمداً على نفسه خوفاً عليه من كل شيء .. فهذا الوحيد الفريد الذي انتظروه لمدة خمسة وعشرين سنة من الترقب .. تربى وحيداً مع أخواته ولم يكبر كأقرانه من الأولاد ، في ممارسة الألعاب الرياضية أو مخالطة الأولاد في سنه ليصبح شابا قادرا في الدفاع عن النفس ، بل أخذ عن أخواته لعب الدمى فأحبها وأحب الجلوس في مجالس الفتيات ، ليقضي معظم وقته معهن ، حتى بعد ما كبرت أخواته وأصبحت كل واحدة منهن عروسة جميلة ، أصبح هو في سن البلوغ فشب على الميوعة والدلع ، الكل كان يظنه فتاة بسبب طول شعره وجمال بشرته وبياضها و كان والده كريما معه بالمال ..إن لم يعطي وحيد فمن يعطي ؟؟ فالمال ماله ..وهو الولد والسند ..
ومن شده خوفه عليه كان يضرب كل ولد يستهزئ بوحيد ..فإذا حاول أطفال القرية الضحك على شعره أو أنوثة حركاته ونبرة صوته ، كان أبوه يدافع عنه بكل قوة ، حتى يجعل الطفل الآخر لا يتجرأ على معاودة الإستهزاء بولده مما أبعد عنه أولاد القرية..فكان وحيد إسم على مسمى ..الكل يخاف أن يتحدث معه إلا العم صالح صديق أبيه الذي كان يحبه و يدلله ويعطيه بسخاء من حلويات وألعاب دكانه ، وعامله معاملة إبنه ، نظرا للعلاقة الحميمية والقوية بينه وبين والده ..
الطفل المدلل وحيد بدأ يستغل طيبة العم صالح.. ورغم العطاء الذي كان يجزيله أياه إلا أنه أخذ بالسرقة لأول مرة …الأولى تتبعها أخرى .
فأعجب بالحكاية… واستمر فيها حتى اكتشفه العم صالح ، وأخبر أباه بالأمر… لم يصدق الاب في باديء الأمر … مع مرور الأيام بدأت الشكاوي تزداد ، من خلال تصرفاته ومعاملاته مع جيرانه من الأطفال… وحيد يتعمد ضرب الأولاد لكي يشتكوا لوالده الذي يوسعهم توبيخاً أمام ناظريه ، فيزداد زهواً وعلواً وتهكماً على أصحابه …
مع الأيام أعطته هذه التصرفات والإهتمام الزائد من قبل والده ، دافعاً قوياً لكي يمضي قدماً في تمرده ، وحافزاً للتفكير في إقتحام مغامرات أخرى … تعرف على صحبة سوء استطاعوا أن يجعلوه من المحترفين في السرقات المنزلية والسيارات .. ضجرت القرية منه ومن أفعاله … أصبح معروفاً للجميع بمشاكله .. الكل تعب منه .. فأدخله ابوه يوما لمركز الشرطة ، معلنا استسلامه وعدم قدرته على مواصلة تأديبه و تربيته ، لكنه ازداد تفرعنا وهمجية وقوة ، لم يعد ذاك الطفل البرئ … أصبح الكل يخاف منه ، الكل يحسب له ألف حساب ، وخاصة بعد أن تهجم عليه اقذار عصابات السجون ، هتكوا برائته ، أصبح شيطاناً في جسد بشري ، قرر معاقبة كل من أدخله السجن فكان يرسم الخطط ويرصها في أوراق ويلزقها على جدار زنزانته فالانتقام أصبح الان هدفه الأول والأخير .
بعد خروجه من سجنه ، تلقته أيدي أقرانه من الصعاليك واللصوص ، ودار بينهم تلاسن وتراشق وقتال ، تحالف عليه الساقطون لقتله .. واستطاع الفرار والخروج من بين أيديهم بصعوبة بالغة ، نفذ بنفسه من بين سكاكينهم ، ولكن ..إلى أين يذهب ؟؟ لم يبقى له أحد وكل مارسمه من خطط اصبحت هباءً منثوراً ..فأخذ ينظر حوله ..لقد أخذته قدماه إلى مكان لم يتوقعه..! كان يقف متسمراً أمام بيت من بيوت الله ، فنادى المنادي الله اكبر ..إرتج قلبه لهذا النداء ، تسللت في نفسه الراحة والطمأنينة ، سمع نداء ((حي على الصلاة ))
وحيد كان ما يزال في حالة ذهول .. فروحه تتوق للدخول إلى المسجد ، ولكن هل سيقبله الله بعد كل ما فعله ..بعد أن رفضه كل من حوله ..فجاء المنادي قائلا (( حي على الفلاح )) ، ، هو لم يسجد لله سجدة واحدة في حياته ، وهو المذنب العاصي .. لم ينتظر كثيراً .. شعر بقطرات الماء تسري في أعضاء جسده… تدخل مكامن نفسه وتتسلل لعروقه ، تطهر ذنوب الماضي وتلين قسوة قلبه العاصي ، بكل قطرة ماء توضأ بها كدواء لقلبه الجريح ونفسه المريضة . فمسح بالماء فإذا به يزيل الهموم ويزيح عن كاهله الغموم ويوكلها لرب العالمين ليغسل عنه كل الخطايا والذنوب .. إحساس جميل، لأول مرة يشعر به، راحة نفسية وهدوء تام سيطر على عقله وأفكاره.. عاهد الله بالتوبة والمآب، وعدم العودة إلى طريق الشر والأشرار .
صلى حتى طابت نفسه ….فدب السكون في جسده ، خرج من المسجد ، وكأنه ولد من جديد. ، توجه نحو بيت أبيه ، وفي قرارة نفسه طلب الصفح منه على كل ما اقترفت يداه ، وما سببه له من مشاكل ونزاعات مع أهله وجيرانه ، لكنه توقف أمام شباب يحاولون التحرش بفتاة ..لم ينتظر منها طلب يد المساعدة ، أخذته النشوة ووازع النخوة والرجولة ، انتزعها من بين أيديهم ، عرفهم ..إنهم جماعة الشر الذين كان معهم…يسبون ويتحلفون بموته فأسرع بها لأقرب سيارة متحركة ، فأدخلها وأغلق الباب خلفها ، وطلب من السائق الإسراع في الهروب بها ، تكاثروا حوله قبل أن يتمكن من الهرب ، إنهالوا عليه ركلا وضربا… وهو يحاول الوقوف في وجههم – هي فرصتهم – فأردوه قتيلا ، سحبوه جثة ورموه أمام بيت أبيه ، ليكون عبرة لمن يقف أمام طغيانهم ..ولكن الشرطة باغتتهم ..إثر بلاغ الفتاة عنهم بتعرض الشاب للضرب أسرعوا للمكان وأمسكوهم بالجرم المشهود ، ولكن بعد فوات الأوان…فكان وحيدا بين يدي امه شهيدا …