ثمة أشياء في أظرف محبتنا لم نرسلها لكم
مياء الصوافية
حين غيّبكم الموت، كانت ثمّة أشياء ما زالت في أظرف محبتنا لم نخرجها لكم، ولم نرسلها كحمَامات سلام ومودّة، ما زالت تسكن بيوت الارتباط القلبيّ بين جدران الرحِم والدم، تنتظر لحظة الانسجام الزمانيّ، أو أن يمنحها الوقت برهةً من دوران عقاربه، ومنتهى أملها هو أن تروي رياحين البهجة أرواحكم، وأن ترابط بكفوف السلام حولكم، وأن تنثر ضياء الابتسام على ملامحكم الطيّبة، وعُمق فرحتها هو أن تكتحل عيونكم ببريق الشفاء بعد مواويل العناء.
كُنّا وأنتم ما نزال نمدّ بساط أمنياتنا على خيوط شمس السنين، وبكلّ نشوةٍ نعلّقها على جناح الطيور المحلّقة، ونتمدّد معها في أفُق البسيطة كضوءٍ لن يخبو، وكَنورٍ متوهّجٍ نقتبس من سَناه الوفاء المُبهج، ونصنع من أهازيجه رباط الإخاء، حالمين بدوام ليالي اللقاء.
تجمّدت الدموع وقد أشعلَتها رجفة الأضلُع، وانتحبت بصوتها المكبوت، فصارت كفصل شتاءٍ جامدٍ يختزن حياة الحين، وما وراء الحين، وما بعده، في صورة ثلجٍ أبيض لا يعكس إلا لا شيء، وفي عمقه شيء وأشياء تضطرب، تتخطّى حدود الآن إلى مصبّ الذكريات، هذه الآه احتبست في مُقلنا، وغابت في غصّة قلوبنا، وتلاشت معها الكلمات، وألوان الصيحات أصبحت خلف جدران الكلام تمنعها الصدمة، ويُلاشيها الانكسار.
بكينا فلم نعد نبصر وجه الحب في أعينكم ولن تدفينا رموشكم بعد ذلك؛ فقد مضت اللحظات حين كُنّا ننام في أعينكم قريرين نقتات ذلك الودّ الذي غذته الجذور من وفائكم.
ما زلنا نسير وراء أمانينا، وبأن العمر لن يغادركم – مع إيماننا بالأجل المحتوم – وأنه ما يزال يفيض بدقائق حياته على أمنياتنا في بقائكم، وبأننا سنغادركم قبل أن تغادرونا.
ما زلنا قبل لحظة صدمة فراقكم نشعر بأن اليبس الذي حلّ على أوراقكم الخضراء سيرويه الندى يوماً بقطراته المخضرّة، وسيشرق الأمل عليه، ويبدد ظلامه، وسيتوارى هذا اليبس خلف حكايات لن تعود، وتعود العافية تزيّن وجوهكم التي أحببناها؛ ليحلو لنا الانسجام القلبي معكم على وقع الأمل المتجدد.
أكوام الحزن الثقيلة إنها في تربة قلوبنا لم يزرها ضياء البهجة مع طلوع الفجر، ولم تزل جذورها تتعمق إلى أعماق القلب حتى كانت كعرائش من وجوم وانقباض، ولولا قبضة الصبر، واحتواء الإيمان، لتعاظمت مسيطرةً على ممشى الحياة.
بكينا بصوتنا المكبوت؛ فالدموع باتت أسيرة محجرها، و السماء حزينة مثلنا؛ لأنها رأت قلوبنا التي خرجت منذ أيام في طريق الفرح لكنها كانت مرتبكة الخطى متعثرة الممشى؛ تخاف أن يباغتها الحزن فجأة، فكم مرة أحرقت نيران الصدمة أحشاء قلوبنا كأنها حشائش يابسة استسلمت لمصيرها، أو كسماء واسعة الأرجاء فرّق البرق بين أجزائها.
ذلك الحزن كأنه أمواج بحر تضرب جدار السعادة؛ لتصنع فوهة فيه، وتحيله إلى أشلاء ممزقة، تغرقنا هذه الأمواج، إنها أمواج تعاظمت؛ فلا يبقى من الفرح شيء إلا ابتسامة تنظر إلينا من أفقها البعيد،
وكأن حالها يقول بأني أخذتُ الأمل المخبأ معي.
بكينا، لم تعد الكلمات تسعفنا، وكأن مواقد الشتاء تحرك فتيلة الحنين؛ حين كان جلوسنا على أباريق الوصال نرتشف الأنس، و صفحات وجوهنا قد استضاءت بحرارة جمر الأخوّة، ودفء الألفة،
ولكن ثمّة قيودا من إيمانٍ تبرّد على مواقد التنهدات، وبأن مساحة الجبر تنتظرنا، وأنها بدأت للتوّ تغزل من خيوط الشدّة عُرى السعادة؛ لتقيم لنا على مساحاتها خياماً بأضواء الهناء، ودفء الرحمة الإلهية.