2024
Adsense
مقالات صحفية

(قبس في القلب)

يعقوب بن عبدالله الحوسني

المرحوم/ عبدالله بن سيف الحاتمي

وأشرقت الأرض بنور ربها فتبسمت، وما أن أضحت فتأملت، وعندما توسطت كبد السماء تألمت، وعند غيابها أيقنتُ أن الأمر انتهى لا محالة.
{ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
يوم عصيب أضنى القلب تعباً وأرهق النفس ألماً، ولكنها مشيئة الله تعالى في خلقه، (عبدالله) في ذمة الله، رحل أبو سيف إلى جوار ربه، رحل صاحب الابتسامة المشرقة والوجه البشوش، خرج من الدنيا تاركاً في قلوبنا ترانيم حزينة مؤلمة، يزيّنها بريق الدعاء له بأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، رحل محلقاً كالطير يعانق عنان السماء، خاتمته كانت بين فاجعة الأمل والألم، عشنا ذلك اليوم حتى انحنت الهامة رويداً رويداً كأنها تراجيديا احتلت القلوب والأرض، لم تكن تلك الحياة إلا لوحة بروازها جرح محزن.

بين الأمل والأمنية والحلم والقدر لا يحدث إلا ما قدَّره الله لنا وعلينا، فالأشياء الرائعة الجميلة تختفي خلف العسر دائماً، ليجزينا الله ويكافئنا بكرم عطاياه، الحياة باختصار شروق شمسٍ وغروبها، فما إن أشرقت إلا غربت، وبينهما تتكون البسمة وتنزل الدمعة، بين فرح وترح، تجمعنا بأصدقاء أوفياء يرافقوننا، وأصدقاء مخلصين يفارقوننا، نفس الحروف المرافقة والمفارقة، لكن ما يختلف بينهما هو الوقع على الروح، بقدر ما تزرع الأولى دفء مريحٌ طيبٌ يؤنس القلب بهجة وسرور، وبقدر ما تجعله الثانية خريفاً بارداً ترتجف منه أعضاؤنا وأجسادنا، وتجعل قلوبنا تحنّ وتأنّ ألماً وحسرة، ويستمر مسلسل تساقط أوراق الأصدقاء من شجرة الصداقة.

قضاءْ وقدر. {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، [الآية 22 من سورة الحديد].

جفّ القلم، رُفعت الصحف، قُضي الأمر، كُتبت المقادير، {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.

إنها العقيدة الراسخة في النفس، فإن أقرّت في الضمير صارت البليّة عطيّة، والمحنة منحة، وكل الوقائع خير وفضل (من يرد الله به خيراً يصب منه). فلا يصيبك خوف أو قلق من مرض أو موت قريب، أو ما كان من عوارض الدنيا، فإن الباري قد قدّر، والقضاء قد حلّ، والخيرة لله، والأجر حصل، والذنب غفر.

هنيئاً لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخذ، المعطي، القابض، الباسط، الرحيم الغفور.
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.
تطوي السنون رحالها دون أن نشعر بأن هناك أقداراً تنتظرنا فترحل حاملة معها أيامها وشهورها.

عجباً ليومٍ سُعدنا فيه رحل، وعجباً من يومٍ ابتسمنا فيه أظلم، وعجباً من ساعةٍ حرصنا فيها على اللقاء اختفت، تدقّ النواقيس كلّ يوم على الأذان، استعدّوا للرحيل، أنتم راحلون، هيهات أن نشعر بذلك، لأن السُّبات على قلوبنا عميق، فقد غطّى أجسادنا بمعطف البرد، وأغشيتْ أعيننا بنسيم الربيع، ولم نشعر بأنّ الموت على صهوة حصان يلاحقنا.

في يوم الإثنين 30/1/2023 أغلقتُ المرافق وتحاملتُ على نفسي وأنا أسير بخطوات من العَجل نحو ذلك الخبر الذي عصف بي، وبقيتُ أناظر الثانية والدقيقة والساعة وهي بطيئة تحبس الأنفاس، فإذا ما ابتسمت الثانية من الوقت بكت الدقيقة بعدها ونحن نترقب بين الرجاء والأمل وبين اليأس والحزن، أيهما المنتصر يا ترى من الوقت؟ تفاقم الأمر بين لسان يتمتم ورموش ترتجف وأجساد ترتعد وشفاه ترتعش، حتى دمعت تلك المآقي حزناً.

خبرٌ كصاعقة حل على قلوبنا، حوّل الأمل ألماً، والواقع المخيف الذي كان حلماً حقيقة.
الله الله الله، يا أبا سيف.
ما وجدته يوماً إلا طلق المحيّا، وما جالسته لحظة إلا حسن الخُلق يداعب النفس الوجلة، ويسكنها فكاهة ومزاحاً، طريفٌ لطيفٌ يسوق لك المفردات المفعمة لحناً وشوقاً وابتسامة، إن جالسته سَعدتْ، وإن ودّعته حزنتْ، كان فيلسوفاً في أيدلوجيته ومعتقداته الخاصة وأسلوب حياته، على الرغم من اختلاف تصرفاته مع الكثير من الناس من حوله، إلا أنها قوية المعنى والفكر، فتجدها تهدف إلى معنىً لا يصوغ فهمه إلا بعد حين من الزمن، مع ابتسامة تبني الكون والحدث ضياءً.

رحل أبو سيف، الصديق العزيز على القلب من الدنيا تاركاً وراءه أحلى الذكريات وأجمل المواقف، رحل بموقف البطل الشجاع، رحل حاملاً معه لواء الوسامة والبراءة والأخوّة المُطْلقة.

رحلتَ من الدنيا يا صديقي ولكن لن ترحل مواقفك، لن ترحل أحلامك وطموحاتك، لن تموت من القلوب التي روضتها على حبك وسقيتها من فيض عطائك، وعلمتها الابتسامة أينما وجدت، تلك الابتسامة التي ودعتنا بها أضفت على قلوبنا بلسم الاطمئنان، وأيقنّا بإذن الله تعالى أنها نفسٌ مطمئنة هادئة صافية نقية تقية فتية، نمْ قرير العين يا صديقي ورفيق دربي تحرسك عناية الرحمن في قبرك الطاهر.

سنوات طويلة وأيام جميلة قضيناها معاً، كان في الفرح مهنئاً وفي الحزن مواسياً، مواقف عظيمة أثبتت رجولة وشهامة وأخوّة.

كان المرحوم سديد الرأي، حكيم التصرف، رزين التعامل عطوفاً اندماجياً يدخل القلب بأسلوبه الراقي المنفرد، خدوماً إذا ما طُلب منه، صاحب معانٍ وقيَم ومبادئ وعزائم عِظام ثِقال، يتمتع بلطف اللسان وبشاشة الوجه وسعة الصدر، يحب اللقاءات والزيارات، فما أن يلقاك إلا ويصافحك بودٍّ واحترامٍ وتقديرٍ وبشاشة وفكاهة، إن رأى منك ثلمة أو حاجة سدّها دون أن تشعر، وإن صحِبته زانك، وإن طلبته أعانك، لطيف في القول والفعل، إنه كالسحابة المعلقة بجدائل السماء تهطل فتروي الأرض ومن عليها رحمه الله تعالى.

يزرع في القلب بذرة يقين تملأ أملاً وتهدي الروح سلاماً، وتلامس القلب بعنفوان زاكٍ.

اللهم إن صديقي الوفيّ العزيز المخلص عبدالله بن سيف الحاتمي، نزل بك وأنت خير منزول به وأصبح فقيراً لرحمتك، وأنت غنيّ عن عذابه، اللهم افسح له في قبره مدّ بصره، وافرش قبره من فراش الجنة، اللهم إن رحمتك ورضاك وعفوك وكرمك وسعت كل شيء فقِهِ اللهم فتنة القبر وعذابه، اللهم أظلّه تحت ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلك، ولا باقٍ إلا وجهك، اللهم بيّض وجهه يوم تبيَضّ وجوه وتسودّ وجوه، اللهم يمّن كتابه وثبّت قدمه يوم تزلّ فيه الأقدام، اللهم اكتبه عندك من الصالحين والصدّيقين والشهداء والأخيار والأبرار، اللهم اكتبه عندك من الصابرين وجازه جزاء الصابرين.

اللهم أجرنا في مصيبتنا ومصابنا وأبدلها خيراً يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعله قبساً منيراً في قلوبنا ندعو له بالخير ما أبقيتنا على هذه البسيطة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights