الذين لن يكونوا معنا بعد هذا
أحمد بن سليم الحراصي
إن حياتنا العائلية كرقعة الشطرنج جميعنا في صف واحد، متلاحمون إلى حدٍّ كبير جداً، لكنَّ قيمتنا هي من تختلف حسب مستوياتنا فقد تكون عمرية، ثقافية، أو شيئا من هذا وذاك، ومع هذا ففقْد عضوٍ واحدٍ من هذه الرقعة يؤدي إلى اختلال ضالٍ في الصف، فتتبدل حال اللعبة من سوء إلى سوء آخر إلى أن يأتي أحد قطعها وينقذها من هذا التشتت، إلا في حياتنا الواقعية؛ فلن يكون هناك منقذٌ لهذا الغياب والفقد، ولن يُعوض هذا الفقد أحد آخر؛ لأننا لسنا سوى صورة واحدة لا تقبل الطباعة، ولن تجدي كلمات العزاء والمواساة نفعا سوى التخفيف عن وقعة الأمر والمصاب الجلل.
فكم هي صعبة الأيام التي نعيشها ونحن في عزاء فقد أحد أعزائنا من العائلة!، وكم هو صعب في أن نتقبل هذا الأمر!، ولكن هذه هي حال الدنيا، لن تقف هكذا دون أن تنتزع منك شيئا، ودون أن تجعلك تعاني؛ فيجب عليك حينها تقبُّلها شئت أم أبيت، فما الحياة الدنيا إلا متاع، وهي الحياة الفانية التي لن تتوقف قبل أن تفنينا جميعًا، فحكم المنية في البرية جارٍ ما دامت الحياة الدنيا باقية، فهي ليست دارا تُخلد فيها، وليست مكانًا للإقامة السرمدية؛ لذا كان علينا أن نتقبلها كما هي ونمضي.
إن أقسى ما يمكن أن تواجهه في الحياة التي تعيشها هو فقدان الأحبة؛ الأحبة الذين كانوا بالأمس معك ثم –وفجأة- رحلوا دون سابق إشعار، أصبحوا ضمن الذكريات التي لا يمكنك أن تنساها ساعة ذكراهم، في المكان الذي جلستم فيه، في الصحن الذي أكلتم منه، في الصورة التي تشاركتم بها، كل الذكريات هذه ستعود للحنين إليها، ولكن لا يمكن أن تعود ساعة الزمن إلى الوراء لتجعلك تسبق الخطوات لرسم قبلة في جباههم كأقل ما يمكن أن تفعله قبل أن تعود بك الساعة الزمنية لحاضرك الذي تعيشه.
كل الذكريات الجميلة تطاردنا بين الفينة والأخرى وتأبى أن تزول، وتحاول دائما أن تضيق الخناق علينا إن كنا على وشك نسيانها، ذكريات الماضي كأنها قارب بمجدافين تجرهما معك في بحر عميق من الذكريات، لا تتكسر مجاديفه حتى ولو كنت بحارًا سيئا، فما بين اليوم والأمس ذكريات، وما بين اللحظة والأخرى ذكريات أيضًا، وكأنك تعيش في حلم ثم تستيقظ لترى أنك تعيش واقع حلمك متسائلًا أكان حلمًا أم علمًا؟
فكم هو الفراق صعبٌ وأليم في آن واحد! فمن الصعب جدًا أن تفارق روحًا كانت تشكل جزءًا كبيرًا من حياتك، كانت قطعة منك فانتُزعت في لحظة ما، ستتألم أيامًا وستمر عليك الأيام هذه كصورة وحش يتحين الانقضاض عليك، تخاف الوحدة وتستجيب لنداءات الفطرة في تخليصك من هذه الأوجاع والالآم، ستقول: ليت الموت يأتي ليأخذني وأنتهي من هذه الدنيا التي لم تعد شيئًا بالنسبة لي بعدما ذهبت الروح التي أحب، فالموت أرحم لي من أن أعيش بقية العمر بدونه. لكن لا مجيب سوى الذكريات الجميلة التي تراودك كالكابوس، ستبكي لعله يخفف من ذلك وأنى لك ذلك؛ فالبكاء لم يكن يومًا مخففًا لألم بل هو من يزيد الجرح الذي لم يندمل، ولن يكون ماردًا سحريًا يجلب لك العزيز الذي فقدته.
لقد صدق الذي قال: إن (التاريخ كله يختصر في ذاكرة أو في رسالة… وأن الماضي لن يكون حبيس خلايا تموت بموت صاحبها)، فتاريخ الماضي مع من عشنا معهم -يا صاحبي- سيكون مترسخا في الذاكرة، فكلما تذكرنا عزيزًا غاب عنا، تذكرنا معه الماضي الجميل بكل ما يحمل معه من طيات الحزن والألم، لقد حفظناها وترسخت كصورة عالقة في الذاكرة، ننسى أحيانا ثم نتذكر وكأنها رسالة فتحت لها أبواب السماء، وحطت فوقنا، ثم نبكي لا شعوريًا ودون إرادة منا، أعترف لك بأنني أشعر بالراحة والأمان والاطمئنان النفسي لحظة تذكرهم، ولا أرى في الحزن عليهم سوى أنهم استحقوا أن نقف لحظة صمت حزينة على ذكرياتنا معهم؛ ربما لأننا لا نجد من يملأ الفراغ الذي شغله أحد غيرهم؛ ولأننا أيضًا كرهنا العيش في هذه الدنيا، ونرى في الرحيل معهم الشيء الكثير الذي لا يدركه أحد سوى من عاش ألم هذه الدنيا ومقتها، فأنا فقدت أحدهم ذات مرة، وتمنيت لو أنني رحلت معه على أن أعيش ألم الذكريات، ولا أعتقد أنني سأحزن على أحد آخر بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
جميعنا فقد شخصًا غاليًا عليه، شكل جزءًا مهمًا في حياته، كان السند، الصاحب، الوحيد الذي ترتاح له، الكائن الحي الذي كان يفهمك وتفهمه، ثم فجأة يختفي، ستشعر بالحزن عليه كثيرًا، وسترى الحياة بدونه تبدو كامرأة عجوز مكتئبة ترتجي من أبنائها وأحفادها الجلوس معها ليعوضوها عن فقدان بعلها الشيخ العجوز، لكنهم ينفرون منها؛ فزمانها لا يناسب زمانهم وسوالفها تصيبهم باللوعة والغثيان؛ حينها تتمنى الرحيل فقط لتترك لهم قضاء وقتهم مع زمنهم.
صديقك، زوجك، أحد إخوتك، أبوك، عمك أو حتى جدك، أحدهم كان أعز الناس عندك ثم رحل؛ لذا هو الآن لا يريد منك سوى الدعاء له بقدر حبك له، فادعُ لأجله ولا تشعر بالحزن، فكلنا راحلون ولن تبقى سوى الذكريات، ومن يدعُ لنا دعوة صادقة من القلب تغفر لنا ذنوبنا وخطايانا؛ فكونوا عطاءً لا ينضب وورودًا لا تذبل وبلسمًا يداوي الجراح.