علم استشراف المستقبل
د.فاطمة بنت عبدالله بن علي الحمادية – دكتوراة فلسفة في التربية
ينطلق عالم الكيمياء البليجكي إيليا بريغوجين المهتم بعلم الفلسفة ودراسة الكيفية التي يعمل بها العقل البشري لتفسير العلاقة بين البشر والمستقبل من المقولة المشهورة “لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل ولكن يمكننا صناعته”، وهذا التوجه للعالم أكدته الظروف التي مر بها العالم، والتي ما يزال يحاول التكيف مع تأثير الجائحة العالمية كوفيد ١٩ التي تسببت في أضرار اقتصادية واجتماعية وصحية على مستوى الدول والشركات والأفراد.
ويأتي علم استشراف المستقبل أحد العلوم التي تنطلق منه البشرية لإعمال العقل البشري في دعم اتخاذ القرار لمواجهة أي تحديات قادمة، وتهدف مراكز استشراف المستقبل المتوزعة في مختلف أنحاء العالم بشكل كبير إلى تعزيز دور البحث العلمي والمعرفة من خلال نشر دراسات مستقبلية متعلقة باستشراف المستقبل ودعم اتخاذ القرار، بحيث تكون مرجعًا للباحثين من جميع أنحاء العالم، إذ تسعى إلى وضع خرائط وسيناريوهات مستقبلية عالمية للقرن لمواجهة التحديات المتوقعة والطارئة.
إذ أن التغيير المتسارع الذي حدث في الآونة الأخيرة للعالم في مجمل نواحي الحياة أثر مباشرة في الممارسات المختلفة، والتي من بينها الممارسات الإدارية وطبيعة العلاقات التنظيمية، لاسيما في ظل التطورات التقنية المتسارعة ومشكلات العولمة وأبعادها اللامحدودة، الأمر الذي أبرز حاجة ملحة إلى التنبؤ بمستقبل المنظمات كونها جزء من نظام محلي ضمن نظام عالمي أشمل يؤثر في نشاطات وخطط واستراتيجيات تلك المنظمات، وبما ينعكس على المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والصحية والبيئية وغيرها من المنظمات، الأمر الذي أكد على أهمية التركيز على دراسة التحديات الطارئة والمستجدة بشكل واضح من خلال مراكز استشراف المستقبل.
وهنا يبدأ الخبراء والمختصون في هذه المراكز وفي مختلف المجالات دراسة ما هو محتمل وقوعه من أحداث، بالربط بين ظروف الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل، أي التركيز على فحص وتقييم المستقبليات الأكثر احتمالًا للحدوث وفق مسار زمني معلوم، ووفقًا لشروط محددة مما يجعلها تتضمن عددا من السيناريوهات المتوقعة لما يمكن حدوثه لمواجهة هذه التحديات.
إضافة إلى وضع أسس تنظيرية للدراسات الاستشرافية المستقبلة، التي تُعنى بتغيير قناعات البشر ليكونوا متوافقين مع مختلف القرارات، إذ تُعنى الأسس التنظيرية بتقديم أساس فلسفي للمعرفة التي تنتجها الدراسات الاستشرافية المستقبلية، علاوة على الاجتهاد في تطوير مناهج وأدوات البحث في المستقبل.
دون إغفال للأسس الأخلاقية لهذه الدراسات، كل ذلك يتطلب إعمال الفكر والخيال في دراسة الممكن، بغض النظر عن مدى احتمالية وقوعه، الأمر الذي يتيح وجود خيارات للبشرية للتعامل مع هذه المستجدات.
إن المتتبع لقصص الأنبياء يجد أن الإسلام غرس هذا العلم، وأكد على الاهتمام به، فما استشراف الرسول -صَلى الله عليه وسلم- لمستقبل انتشار الإسلام ولفترة زمنية طويلة لمختلف أنحاء العالم إلا استدراك لأهمية التنبؤات المستقبلية، ووضع الخطط ودعم القرارات لتحقيق الأهداف والاستعداد للقادم، كما أن إدارة النبي يوسف عليه السلام لواقعة الجفاف في مصر قرابة ١٥ عامًا هي استشراف لانتهاء الأزمة بعد هذه المدة، تضمنت التنبؤ بحلول للخروج من الأزمة، كل ذلك يؤكد أن ما يسعى إليه علم الاستشراف هو واقع ديني وحتمي للتعامل مع مجريات الحياة وفي كل الأزمنة.
ولتقريب الصورة لواقعنا الفعلي نجد أن عدم جاهزية العالم لحدث كوفيد١٩ كان أكبر دليل على أهمية الحاجة لعلم استشراف المستقبل، وأن التنبؤ والتخيل والبصيرة والحدث والإدراك هم المفاتيح الخمسة لعلم استشراف المستقبل.
خلاصة القول، لأن المستقبل هو ملك لمن يستعد له ويسهم في تصميمه وصناعته، ولأنه لم يسبق أن حدث شيء مفاجئ مثل حدث الجائحة في هذا العصر الحديث، ولأن المستقبل لن يكون أبداً صورة للماضي، فعلم استشراف المستقبل ليس تنجيماً بل هو منهجية علمية تعتمد على توافر مقومات أساسية تتمثل في الفهم الشامل لاستشراف المستقبل وتحدياته والتدريب على أدواته ومناهج استشرافه لتكوين رؤى مستقبلية ثاقبة.