2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

الأشخرة . أبناء المدينة الفاضلة

الكاتبة والباحثة : سالمة بنت هلال بن ناصر الراسبية – جنوب الشرقية

 

لم تكن صبيحة يوم الخميس التاسع من يونيو 2022م عادية البتّة على أبناء الأشخرة، الذين فُجعوا بنبأ فقدان اثنين من أبنائها في عرض البحر، حيث ذهبا لرحلة صيد كعادتهما من الساعة الثالثة فجراً إلى الرابعة عصراً، ولكن جميع قوارب الصيد عادت إلا قاربهما.
منذ لحظة عدم عودتهما وتناقل الأنباء بفقدانهما، تجمهر الأهالي عند ميناء الأشخرة، ليتفقوا على آلية معينة للبحث، فهبّ الأهالي كلّ على حسب قدرته، الذي لديه قارب رمى به في البحر، وتوزعوا أفواجاً للبحث في عرض البحر، ومن لديه محطة وقود فتحها لهم ليتمكنوا من تعبئة الوقود في القوارب، والذي لديه محلات مواد غذائية تبرع بالمياه والأغذية لمن سيذهب لتفقدهم، والأمهات قمنَ بإعداد الوجبات وتجهيزها لمن يعود أو يذهب لرحلة البحث والتقصّي، مرّت الأيام وما زال البحث مستمراً لم يتوقف.
وعلى ليل البحر وظلمته وضوء القمر ولمعته كان علي وسالم في قاربهما الذي تعطل محركه، لم يتوقعا ذلك الأمر رغم شدة حرصهما على أخذ احتياطات الأمن والسلامة، ومياه قليلة لا تتجاوز أربعة لترات، وقارب يطفو، تتقاذفه الأمواج وتدفع به الرياح الموسمية إلى مصير مجهول، بقيا فيه بانتظار الفرج.
وأثناء تلك اللحظات كانا ينظران إلى السماء وهي تتزين بالنجوم وبالطائرات المحلقة، بعيداً ليعزفا ألحاناً من الشوق للوطن ومشاعر الغربة التي لم يعتادا عليها، نظر علي إلى سالم الأصغر منه عمراً وهو يغفو من الأرق والجوع، ممسكاً بقارورة الماء والتي لم يتبقّ منها إلا جرعة صغيرة ليشدّ من عزيمته ويخفف من هواجسه، وهما في تلك اللحظات من البؤس والخوف والجوع والترقب، نظرا بعيداً، وإذ بسفن خشبية كبيرة آتية لصيد الأسماك، إنها سفن باكستانية، لوّحا بأيديهما، صرخا بأعلى صوتهما دون فائدة، خارت قواهما وأنهكهما الحزن والألم ومرّ شريط الذكريات سريعاً.
في المشهد الآخر كان أهالي الأشخرة يسطرون أروع مشاهد البذل والعطاء، الكل يساهم ويجود بما لديه، ولم تكن مشاعر اليأس سائدة بينهم فأملهم بالله عظيم، فقد كانوا يبحرون لتفقّد ذويهم أفواجاً، ويظل البعض ثلاث ليالٍ متتالية على متن سفينته، على أمل أن يجدوا ولو دليلاً واحداً على مرور علي وسالم في ذلك المكان، قارورة ماء أو قطعة قماش أو شبكة صيد أو حتى ملابسهم، لم يتسلل اليأس إلى قلوبهم فالكل يظهر رباطة الجأش، وفي اليوم العاشر من البحث وأثناء مراقبة الوضع من الصيادين والأهالي على الميناء، إذا باتصالٍ من رقم غريب لأخ أحد المفقودَين، إنه خط باكستاني، ردّ عليه: نعم من معي؟ قال المتصل: أنا أخوك (علي) وهذا (سالم) بجانبي نحن بخير يا أخي. وأخبر جميع الأهالي بالأشخرة بأننا في أتمّ الصحة والعافية، لم يتمالكوا أنفسهم وبكوا جميعاً وصرخوا بأعلى صوتهم: إنهم بخير، الحمدلله إنهم في باكستان.
سرَت الأخبار السارّة كالنار في الهشيم وتسارعت بالانتشار، من أقصى عمان إلى أقصاها والجميع يلفظ كلمات الشكر والحمد لله، علي وسالم عندما استمر تلويحهما لصيادي السفينة الباكستانية اضطر قائد السفينة للتوقف وسؤالهم من بعيد معتقداً أنهما من القراصنة، لكن ما قطع الشك باليقين عندما اقتربت السفينة فعرف أنهما مجرد صيادَين تائهين في عرض البحر، سمع القائد علي وسالم يقولان له أننا من عمان وكانا يشيران إلى جهة البحر المطل على الأشخرة حيث لا توجد لغة مشتركة بينهم، استعجل القائد بإنقاذهما، فرمى لهما قارب النجاة وسحبهم إلى متن السفينة.
تسارعت أحداث ذلك الموقف المهيب في ذهن علي وسالم، لم يصدقا أنهما نجيا من الموت، فخرّا ساجدين شاكرين الله تعالى على أن كتب لهما عمراً، وأنهما سيرَيا أهلهما.
بعد تلقيهما الفحوصات الشاملة بباكستان وبإشراف من السفارة العمانية التي لم تألُ جهداً مع الجهات المختصة بالسلطنة في مشاركة الأهالي البحث منذ الأيام الأولى، أصبحا مستعدان للعودة إلى أرض الوطن،
وماهي إلا أياماً معدودات حتى وصل أشبال السلطنة، وهم يسطرون من الصبر والصمود والإيمان بالله تعالى أروع الصور مشددين على أهم تعليمات الصيد وهو الحرص على أخذ هواتف الثريا ومؤونة الغذاء والدواء وأجهزة تلقّي الإشارات في حال الفقد.
في هذه السطور، ترجمتُ قليلاً من صور التعاون بين أبناء نيابة الأشخرة في ولاية جعلان بني بو علي، الأفراد كأنهم من عائلة واحدة يتقاسمون الخير بينهم كما يتقاسمون الهموم، قلوبهم كقلب رجل واحد، رجالهم ونساؤهم كبارهم وصغارهم، ولن يشعر بذلك الشعور إلا من عاش بينهم ككاتبة هذا المقال التي عملت معلمة للرياضيات في مدرسة الأشخرة الثانوية للبنات، في العام 2001 وكانت إحدى الشهود على أنهم بالفعل أبناء المدينة الفاضلة، فهنيئاً لمن عاش في الأشخرة وهنيئاً لمن عاش بينهم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights