من بلاد الشمس المشرقة
المهندس: ناصر بن سالم الوهيبي
nssw71@gmail.com
هل هو دعاء أمي أو تسبيحات أبي أن تقودني الأقدار لأقوم بزيارة بلاد الشمس المشرقة (اليابان)؟ وأن أمكث فيها 13 أسبوعا، ويتخلل أياما عدة من رمضان، وأي زيارة تلك؟! فهي سفرية الأحلام بأرخبيل أوكيناوا اليابانية الجزيرة العائمة في المحيط الهادي بإطلالتها الجميلة، وعلى مقربة من تايوان.لم أتخيل يوما أو أحلم ليلة، ولم يَنْمُ إلى فكري قط أنني سأكون في بلاد الشمس المشرقة، إنها الدعوات والتسبيحات والتوفيق من الله. سمعت عنها كثيرا وعن تقدمها وعن تاريخها، فهي من احتلت الصين فترة من الزمن، ولولا قنبلتا هيروشيما وناجازاكي لما استسلمت اليابان. تاريخ طويل وعظيم مع حضارة الساموراي ودنيا المأكولات البحرية و عشق المطاعم لليابانيين.
لم أسافر على حسابي الخاص ولا حساب جهة عملي بالرغم من أنها مهمة عمل رسمية فإن السفرية مدفوعة الثمن من قبل منظمة (جايكا اليابانية) ما عدا مصاريف الجيب، فهي من مؤسسة عملي، وجايكا منظمة معنية بالتعاون الدولي وتطوير القدرات الفردية والوطنية للدول الأخرى.
أكثر من يوم وأنا محلق في الجو على متن الطيران القطري الفاخر في كل شيء، بالطائرة فكرت نفسي في بيتي وكأنها مستقرة في السماء لا تتحرك والهدوء يسود الركاب إلا عندما تنادي المضيفة في أثناء توزيع الوجبات والمشروبات الباردة والساخنة، من طول الرحلة شبعت شربا وأكلا ونوما، كلما هم النعاس بي فجآتني المضيفة الكروية بكلمة (ميزو)، أي ماء شرب وهي كلمة يابانية، ومن كثر نومي الطويل بأوقات الوجبات رق قلب تلك المضيفة لي، وأشفقت علي رحمة بي كانت تأتي لتجلس معي في أثناء الرحلة تتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتعلمت منها بعض الكلمات اليابانية، كنت أنا وأحد زملائي بالعمل في مكان يتسع لثلاثة أفراد، قبل أن أنزل أرض اليابان شممت عبق آسيا في تعامل تلك المضيفة صاحبة الابتسامة الدافئة والأجواء الداخلية بالطائرة باردة، كانت الرحلة في شهري يونيه ويوليو، عندما اقتربنا من أجواء اليابان حينها شعرت أنني بالطائرة، ولست بالمنزل؛ لأن المطبات الهوائية أيقظت في ذلك الشعور المخيف عن قصص سقوط الطائرات وأنا عادة ترهبني لحظات إقلاع الطائرة وهبوطها تجعلني أصرف النظر عن السفر بالجو، في تلك اللحظات كنت أتمنى الرحلة تكون بسفينة بالبحر؛ فأنا أجيد العوم والغوص والصيد معا، فلا يرهبني البحر أبدا وهو عشقي منذ نعومة أظافري وحتى لحظة كتابة هذا المقال.
الحمد الله نزلنا إلى مطار جزيرة أوكيناوا الذي يقبع على مساحة من بحر اليابان تم ردمها لبنائه، ففي هذا المطار شعرت بالهزات الزلزالية البسيطة، فاليابان أرض الزلازل والبراكين والأعاصير، لكنها كانت هزات خفيفة، فمن كثرة الهزات الأرضية باليابان لا يستعملون الطوب في مبانيهم، فمعظمها زجاجية وتتمايل مع الهزات الأرضية، وكأنها على موعد مع رقصة شهيرة، خرجنا من المطار بكل سهولة ويسر دون تعقيد يذكر، و كان مندوب جايكا في استقبالنا أنا وزميلي بالسيارة.
كان السكن مثل سكن الجامعات سكن يعج بالمتدربين من معظم دول العالم الثالث في مكان مرتفع، قضيت فيه أياما وليالي طويلة تخللتها هزات أرضية وأعاصير من المحيط الهادي وهو ليس هادئا، كان موقع التدريب يبعد بمسافة ساعة بالسيارة من مكان السكن يوميا نذهب صباحا ونعود قبيل المغرب، مكان التدريب كان مؤسسة بحثية من عدة مختبرات، وكان موضوع تدريبي (انجراف التربة بفعل الفيضانات إلى البحار والمحيطات)، تعلمت خلالها العديد من الخبرات والمهارات في مختلف النواحي، وكانت لي تجربة في الغوص في بحر اليابان لأيام لجمع عينات من قاع البحر، وكانت لي مشاركات مع طلاب بالجامعات اليابانية، ودخلت بالمساء دورة تعلم اللغة اليابانية وبعض المهارات الخاصة بالاسترخاء واليوجا، والصعوبة الوحيدة التي واجهتني بشكل كبير هي الأكل الحلال، رغم أنهم بمطاعم السكن كانوا يحرصون كل الحرص على توفيره لفئة المسلمين بمركز الإقامة، وفي أيام العطل وإجازة نهاية الأسبوع كان لي فرص التعرف على بعض عادات المجتمع الياباني؛ حيث تم دمجي مع عوائل يابانية من خلال ألعاب وحوارات هادفة لتبادل الخبرات والأفكار والتعارف بين الحضارات، ومن خلال معارض في مقر السكن شاركت بعدة لوحات عن سلطنة عمان تاريخيا وسياحيا واقتصاديا بالإضافة إلى الفنون التقليدية التي عبرت عنها في عدة مناسبات طبعا بمشاركة زملائي العمانيين الموجودين بمركز الإقامة.
ومن الأشياء التي تعلمتها من الشعب الياباني الانضباط في كل شيء، حتى في تناولهم المشروبات الروحية يحترمون غيرهم ويحترمون القانون؛ بحيث لا يتناولونها وهم خلف مقود السيارة؛ لأن القانون عندهم صارم في هذا الأمر، وهم يحترمون ديانة الشعوب الأخرى وثقافتها، فقد لاحظت ذلك عندما كنت أخرج مع أساتذتي المدربين لي؛ بحيث يبتعدون عن كل ما هو محرم بالدين الإسلامي، كلحم الخنزير ومشتقاته، حتى وزني خلال تلك الدورة نزل إلى 57 كغم؛ لقلة الأكل الدسم؛ وكان اعتمادي أكثر على الماكولات البحرية والفاكهة والخضار.
كان النظام عندهم ياخذ بالساعة البيولوجية في تنظيم أوقات العمل؛ حيث يحرص الموظفون على تناول وجبة الإفطار في موعدها كل يوم، وعند منتصف النهار يتناولون وجبة الغداء، ثم يغلقون إنارة مكاتبهم ويذهبون في سبات عميق على كراسيهم بالمكاتب لمدة ساعة كاملة، ثم يعودون للعمل بكل نشاط وحيوية حتى الساعة الخامسة، ولاحظت أيضا أنهم يغلقون إنارة الغرف والمكاتب ودورات المياه إذا خرجوا منها، ويطفئون الأجهزة التي لا حاجة لهم بها؛ وبذلك يوفرون في الطاقة والمصاريف، ومن الأشياء الأخرى التي لمستها فيهم أنهم دوما يخصصون أيام المناسبات يرفهون فيها عن أنفسهم بعد الدوام مباشرة، يقضون المساء مع بعضهم كزملاء بممارسة كافة الأنشطة، ومنها الرياضية.وفي أثناء وجودهم بالعمل يصنع كل موظف لنفسه الشاي والقهوة، فليس هناك عمال أو خدم في مكاتبهم، وفي أول أيام العمل بالأسبوع صباحا كل الموظفين في ساحة مقر العمل يكنسون وينظفون الساحة، ويتقدمهم أعلى مسئول في ذلك الموقع، وخاصة في الأيام بعد الإعصار؛ حيث تقليم الأشجار المتكسرة، وجمع الأوراق وإرجاعها في أحواض الأشجار،.فهم يهتمون بالساعة البيولوجية، فعادة نشاط الإنسان البدني والذهني يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرة وحتى الساعة 12 ظهرا، حينها يبدأ النشاط يقل، فالبركة في التبكير، والإنسان منذ الأزل كان يباشر أعماله منذ بزوغ الفجر، ويرجع قافلا عند الظهيرة؛ حيث يتغدى ويأخذ قسطا من الراحة والنوم، ثم يباشر عمله بالمساء حتى موعد التاسعة مساء؛ حيث تعلن الساعة البيولوجية اضمحلال النشاط وبداية الرغبة للخلود للنوم حتى يصحو باكرا وهو نشيط.
هذه طبيعة الجسد الصحي والمعافى، لا يحيد عن الساعة البيولوجية التي مؤشرها يقول: إن النشاط والحيوية النهارية تبدأ من بعد صلاة الفجر وحتى الساعة 12 ظهرا. في حين أنه من الساعة 12 ظهرا حتى موعد صلاة العصر فترة راحة وطعام ونوم؛ حيث لا نشاط بيولوجي بالجسم. أما النشاط المسائي يبدأ من بعد صلاة العصر وحتى الساعة 9 ليلا، ومن الساعة 9 ليلا إلى موعد صلاة الفجر فترة راحة ونوم؛ حيث لا نشاط بيولوجي.هكذا يكون الجسم سليما ماديا ونفسيا وقويا روحيا، ومقاومته للأمراض ممتازة.
وإن استمرار الطلاب في مدارسنا إلى ما بعد الساعة 12 ظهرا لا يخدم الجانب التحصيلي، إلا إذا أخذوا قسطا من التغذية والراحة والنوم بعد الساعة 12، وعادوا بعد صلاة العصر؛ حيث يكون الجسم في كامل وعيه وعافيته، وتكون أجهزته في تمام عملها، هذه مبادئ الالتزام بها هو احترام لطبيعة البيئة حولنا ومفرداتها، وحماية لأجسامنا من أية علل لا سمح الله. فشكرا لبلاد الشمس المشرقة، وأتمنى أن تعيدني دعوات أمي وتسبيحات أبي إليها من جديد.