تفاصيل مخبأة في زحام الذاكرة
خلفان بن ناصر الرواحي
نعم، هناك ثمة تفاصيل مخبأة في زحام الذاكرة، فبرغم زحام مفردات تلك التفاصيل من الذكريات القديمة منها والحديثة؛ فهي بلا شك تعد بالنسبة لنا حكايات أو دروسًا من ذاكرة الزمن، وهي بمثابة المرجع الذي نعتمد عليه في كثير من الأحيان؛ لاستلهام العبر والدروس المستفادة؛ لكي نسير بخطى ثابتة للمحافظة على ما تحقق قدر الإمكان إن لم نستطع التطوير أو تجنب المخاطر للوقوع في المحظور، أو الحفاظ على مكانتنا في المجتمع والأسرة بما يليق بمكانتنا ويرضي الآخرين…
إننا نعيش في كثير من الأحيان، وفي وقت العزلة أو الخلوة مع الذات لحظات قد تجرنا إلى عالم المجهول، وخيال عجيب ومتفرد يقودنا إلى سحر الذاكرة وعبقريتها التي يصعب علينا الوصول إلى إرضائها! فهي متقلبة بين الذكريات الجميلة والممقوتة، ولعل المواقف التي تمر بنا هي التي تجبرنا على الاستسلام؛ فنخضع طوعًا لا كرهًا أن نحتفظ بها في ذاكرة العقل الباطن، وربما نكتبها في مفكراتنا الخاصة؛ حتى لا ننساها برغم أن بعضها لا يضيف لنا شيئًا في محصلة مفردات حياتنا…
تمر بنا السنينُ وتقلبات الزمن والأحوال، ويمضي بنا العمر؛ لتدق في خلجات أعماقنا نبضات القلب المتلهف؛ للحصول على راحة البال، والتفرغ لتغذية أرواحنا بما يليق بما خُلِقت من أجله، وليس بما خُلِقَ لها للاستمتاع واللهو والعبث دون فائدة، وليكن لنا حصيلة تتبقى، وتترك أثرًا وبصمة باقية لنا ولغيرنا؛ ليستفاد منها، وتبقى ضمن التفاصيل المخبأة في ذاكرة الزمن، ولتكن ذاكرتنا حينها مشابهة بوقة الصائغ؛ يسيل منها الذهب، وتبقى الشوائب…
وهنا تأخذني تفاصيل بعض الذكريات إلى تفاصيل بيوت الطين التي كانت متراصة الجدران، محكمة البناء، يسكنها أناس متواضعون، يعيشون حياتهم أوفياء، ولا يعرفون التصنع، ولا يختبئون بالأقنعة المبطنة، بقيت ذكرياتهم صامدة بلحظاتها الجميلة ضمن تفاصيل الزمن، نتمسك بها رغم رحيلهم عنا، فلقد تركوا لنا بقايا من ماض عبقه لا ينسى! احتفظت به بعض الجدران الصامدة رغم قساوة الزمن، ورغم هجراننا لها، وتهدم بعضها، وبقاء أخرى مهجورة ومندثرة؛ لتبقى ذكرى في سطور النسيان!
إننا لا نعرف قيمة تلك اللحظات من أعمارنا إلا إذا افتقدنا اللحظات الجميلة التي ألفناها وعشقناها بكل تفاصيلها، ولا نعرف القيمة الحقيقية لها إلا إذا انغمسنا في أعماق الذاكرة، وننقاد لنبض القلب الذي يذكرنا بالصحبة والأخوة واللحظات الجميلة التي فقدنا بعضها نتيجة الحياة العصرية التي أراها أنها مليئة بالثقوب التي تسربت منها أفضل الأشياء، وبقي الفتات منها رغم رغد العيش، والتطور الفكري، والتقدم العملي، والثورة الصناعية.
قد لا يتفق بعضنا مع ما ذهبت إليه من استذكار وحوارات نفسية لتفاصيل الزمن، فيراها أنها تفتح آفاقًا واسعة للعودة إلى الماضي، وضريبتها قاسية بعض الأحيان على النفس، فما رحل لن يعود، ويبقى ضمن ذكريات تفاصيل الزمن، ولكنها -من وجهة نظري- “الحياة لابد أن نستذكر بعض المحطات منها؛ لنستلهم العبر، ولا نقف كالعاجز والمستسلم؛ ليبقى لنا شرف المحاولة لنصل للغايات والطموح بما يريحنا، ويريح الآخرين دون تكلف…”