فليحفظك الله يا أمي
خلفان بن ناصر الرواحي
الأم وما أدراك ما الأم! إنها نعمة عظيمة، وبركة جليلة، وبهجة قريرة، وصفاوة لا تضاهيها صفاوة، وتعجز الكلمات عن وصفها مهما أبحرت في أعماق بحار تراكيب الحروف وسحر البيان، فلن تستطيع كلماتي أن تفي بزفرة من زفرات الولادة، ومشقة الحمل، والصبر على التربية، والحرص على علاقتها وتعلق قلبها بي، فوجودها في الحياة من أعظم النعم، وفقدها هو أشد ألمًا، فالأم هي أصدق حب وأطهره في الوجود؛ لأن حبها هو الحب الطاهر النقي والمتفرد من نوعه، فهو غير مبني على أية مصلحة خاصة؛ وذلك لأن الأولاد هم قطعة من روحها، وتظل تحمل ذلك الشعور مهما كبرنا.
آه يا أُمي، كيف أصف تلك اللحظة التي وجدتك فيها تتألمين عند سقوطك؟ وكم كنت أتمنى أن ذلك السقوط هو مجرد ألم عابر دون تبعات! ولكنها الأقدار ومشيئة مصرف الأمور، ففي ذلك اليوم وهو مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر جمادى الأولى ١٤٤٣ هـ، الموافق الثامن والعشرين من شهر ديسمبر ٢٠٢١م، وعندما كنت ذاهبًا لصلاة العصر، وكعادتي أطرق عليك الباب لأخبرك وقت الصلاة؛ حيث وجدتك طريحة على الأرض إثر سقوطك، فيا له من موقف وخبر غير سعيد!
نعم، إنه كذلك يا أُمي، بالنسبة لي ولجميع أولادك وأسرتي وجميع أقربائك؛ حيث كنت تتألمين من الكسر الذي أصابك، وأنت في هذا العمر الذي تجاوز الثمانين عامًا، وعندما حملناك من البيت إلى المشفى وأنت مسدلة على السرير تتألمين، كنت أتمنى أن أبادلك تلك اللحظة؛ فأكون المسدل هو شخصي، فأبادلكِ اللحظة بعافية والحزن بِفرح؛ لتبقي نبراس البيت ونور المكان.
يا أُمي، وهل يحتمل قلمي الصامت منذ مكوثك في المشفى حتى عودتك إلينا إتكاءة مستمرة ليبقى مشلولا؟! وهل تحتمل الورقة المركونة في زاوية الأرفف هذا الانسكاب المترامي من وجداني على ما يخطه قلمي ملونًا ومزخرفًا بشتى ألوان العاطفة الجياشة التي زرعناها من تدفق مياه حنانك وعواطفك؟!
بالرغم يا أُمي، أن قلمي جمادٌ لا يملك الشعور، لكنه -بلا شك- متحدث ناطق بين أصابعي بإحساسي المرهف والمتدفق نحوك، ليدفع يدي الحرة للتعبير برغم الارتعاش الذي يفقدني السيطرة على التحكم بحروف الكلمة، فالصورة التي أراك عليها الآن لا يحتملها قلبي الضعيف.
وليكن لهيب البوح هذا يا أُمي، قد يمكنني من الإفصاح بما تستحقين، فلا أتصور أن هناك علاجًا بالنسبة لي إلا الانغماس أكثر مع ذاتي في الكتابة بقلمي الذي يصاحبني، والاستسلام لرعافه المتدفق؛ فأتوغل في التعبير لأعز مخلوق على وجه الأرض على قلبي الصغير.
يا أُمي، سوف أجاهد نفسي لأكتب؛ لعلني أصيب مع حروفي لتتعاطفي معها؛ فتسكبيها في قلبك؛ لتخفف شيئًا من أكدار قلبي، وسأكتب لك وأنا على يقين أن ما أكتبه تقصير غير مكتمل المشاعر لتفاصيل قلبك الرائع، ولذاتك النقية، ولروحك الطاهرة، ولعمرك النازف بكل تفاصيل رقة الشعور بالحب والعطاء والتضحية.
يا أُمي، وأنا أكتب يكلمني ضميري، ويحملني هاجس الخوف ما لا تطيق روحي؛ فأجهش في البكاء، فقد اجتاحت عواطفي غربة الفقد والمكان والزمان لروح ذاتك.
لا أملك يا أُمي، غير الكلمات المتواضعة لأعبّر من الأعماق لأتنفسكِ بين حنايا الضلوع بأنشودة البهجة والعافية، فلا أملك غير الكلمات للتعبير عن محبتي وشعوري تجاهك مع ثقل المشاعر والحب المزروع بداخلي نحوك، فليتك أن توشِميني بين حنايا أضلاعك لأتنفسكِ من الأعماق بزفرات هامتك العالية، ومكانتك الغالية لأقترب أكثر من قلبك، وأهمس عن قرب بكلماتي؛ لتنتشي روحي من جديد، وأرى صورتك أمامي مشرقة فتملئين البيت ضياءً وإشراقًا مع كل لحظة، ولتسمعيني صوتك الدافئ، فيدخل في قلبي قبل سمعي، فأنت كل شيء في هذه الحياة، والحياة أنت، وليحفظك الله لنا يا أمي الغالية.