قلوب لا تعرف اليأس
سعيد بن خلفان الحكماني
جاءت وفي عينيها إجابات لا تنتمي إلى تلك الأسئلة، ففي شرع الحب الإجابة تكون في وقتها؛ لكي لا تغرق العيون، ولكي لا تحترق القلوب، ولكي لا تنطفئ أنوار الخدود، ولكي لا تغيب تلك الابتسامة التي تشفي جروحًا تكالبت عليها أسئلة لم تجد الإجابة مع مرور كل تلك السنين.
لماذا أنا بالذات لماذا نظرت إلي.. أنا نعم أنا لماذا ؟؟
بعد سنوات طوال تناسيت ما كان ولم يكن، بل هناك تفاصيل هي وأنا فقط نعلمها…
كانت القاعة مكتظة بالمسافرين من كل بقاع الدنيا منذ ذلك المساء، وعلى وقع صوت المنادي للمسافرين للتوجه إلى قاعة انتظار أخرى لطيران مختلف، ومنذ تلك الليلة بالتحديد قرابة الساعة الثامنة والربع في مطار مسقط الدولي تجددت قصتي معها، كانت متوجهة لقضاء إجازتها كعادة معظم من يعشقون السفر، ومن منا لا يعشق السفر؟ فهي كانت برفقة اثتنين من صديقاتها، وكنت أرقب سعادتها الغامرة معهن، وانشغالها بأحاديثهن، وضحكاتهن التي جعلت كل من كان بالقاعة يلتفت لتلك العفوية، ولكنها تكمن في تميزها بالوجه البشوش دائمًا، وجلسن بالكراسي التي جنبي، وكانت تنظر إليّ بين فينة وأخرى، ولكنني لم أعرفها وقتها، وقلت في نفسي: ربما هناك دعوة لوالدتي بأن ينظر إليّ كل ذلك الجمال والبهاء، بالرغم من أنني لا يوجد فيّ ما يشد الناظرين، وتسللتُ بعد دقائق من جلوسها من بين زملائي المنتظرين على كراسي القاعة الحديدية الباردة نوعًا ما للصعود للطائرة إلى مقهى قريب من قاعة الانتظار بالسوق الحر بالمطار؛ لكي أطلب كوبًا من القهوة؛ لعلي أفيق مما أنا فيه من الاستغراب، والتفت لصوت اشتقت لسماعه وكأنني أعلم من صاحبته سألتني .. ألا تعرفني؟ بعد أن تبعتني خلسة زادت دهشتي واستغرابي من الموقف. امراة فائقة الحسن والجمال تسألني، فالتفت خلفي، وعن يميني، وعن شمالي؛ لعلني لست المعنيّ بالسؤال والنظرات الخفية التي كانت تسترق النظر لتنظر إلي خلسة! ردت مرة أخرى نعم، أنت طارق، ما بك مندهش؟ ألا تتذكرني…؟ ابتسامتها عفوية لمثل هذا الموقف. من ؟؟؟ نعم أنا هو ولكن …! هل أنت….؟ قبل أن أكمل حيرتي بادرتني: نعم، أنا هي، ورحلت عني بسرعة بعد أن نادى المنادي للتوجه نحو الطائرة، وصوتها وابتسامتها يترددان في عقلي، وكأنني في حلم وأنا ممسك بقهوتي في ذهول ورغبة بالبكاء، ولم أشعر بحرارة قهوتي، ولا أعتقد هناك مَنْ يعرفها حق المعرفة، ما الذي يبهجها؟ وما الذي يحزنها غيري؟ فانتابني إحساس برغبتي الملحة والشديدة جدًا بالجلوس معها، والتحدث عن كل ما في صدري، والبكاء أمامها كطفل فقد الأمان بعد رحيل مَنْ يوفّر له الأمان، ورغبتي بالارتماء في حضنها وأسلم نفسي لها، ولكنني أشفقت عليها بعد أن رأيت دموعها تنهمر بدون أن تنطق بكلمة أخرى، فبالرغم من اكتساح الشيب للحيتي، وضعف حالتي فإن الصدف هي التي قادتني إليها؛ حيث التقينا أول مرة في فعالية معرض مسقط الدولي للكتاب، وكنت كعادتي في مثل هذه الفعاليات أتجول في المعرض، وأتردد على بعض دور الكتب، وأتصفح بعض الكتب بشكل عشوائي؛ لعلي أجد ضالتي من الروايات أو الكتب العلمية التي عادة ما أقرأها للمرة الأولى وأركنها كسابقتها في مكتبتي المتواضعة التي لا أفتحها إلا عندما أكون متفرغًا وأغلق هاتفي وأنشد الهدوء؛ لأبدأ باسترجاع قراءتها بتأنٍ أكثر من ذي قبل؛ لأنَّ بيني وبينها ارتباطا وعلاقة حقيقية، فنكون في وئام معًا، ألا يقال: إنَّ خير جليس في الزمان كتاب؟
ياااه!! أدركت حينها وأنا في قاعة الانتظار أن الدنيا رحلتها قصيرة، وكل ما دفن يرجع من جديد، ففي إحدى تلك الزيارات تعرفت إليها، وكانت تروج لإحدى شركات السيارات عند مدخل المعرض، فجمالها وروعة ابتسامتها ولطافتها للتعامل مع الجميع سحر لم تستطع نفسي التواقة إلى الحب، وإلى الجمال، وإلى تلك المعاملة الرائعة أن تقاومه، بل جعلتني طول ذلك الوقت من تجوالي في المعرض فاقدًا التركيز واختيار ما جئت لأجله، فبدوت متشتتًا فاقدًا لنفسي، وكأنني أهيم بلا عقل، وصورتها لم تفارق خيالي؛ فهي ألقت علي سحرًا حلالا لم أستطع حتي أن أستيقظ منه، وكأنني في حلم ونوم عميق، وأنني أعيش قصة من الأساطير التي قرأت عنها وسمعتها، فوقفت برهة أرقبها وهي توزع ابتسامتها للجميع بدون استثناء بناءً على طبيعة العمل الذي أسند إليها من قبل تلك الشركة، وتزاحمت في خاطري أفكارٌ تلو الأخرى؛ للتعرف عليها والتقرب منها، ولكن، كيف؟ وتذكرت نزار قباني وقصائده التي لم أملّ من قراءتها وحفظها مرارًا وتكرارًا، وترددت هل أشتري كتيبًا لها بما معي من نقود وأهديها إيّاه؟ وهل ستتقبله مني أو أنها ستصرخ في وجهي وستتجمع الجموع حولي وترشقني بنظراتهم الغاضبة من سوء فعلي؟ ترددت وترددت فترة وجلست بهدوء؛ لعلني أستجمع شجاعتي وأذهب إليها قبل أن تخطفها أبصار عشاق الحسن والجمال، وأفقدها للأبد، فالحماسة بدون فكر ستجلب لي الدمار وتقطعني أشلاء أشلاء.
وها أنذا أحدث نفسي مرة أخرى كالمجنون والارتباك يفكّك ما تبقى من شجاعتي، ووجهي أشعر به وكأنه متورم محمر خوفًا وهلعًا من رد الفعل، فبالرغم من كل ذلك فإنني استجمعت قواي مرة أخرى، وأظهرت شجاعة باطنها الخوف والقلق وأدوّن رقم هاتفي على الكتيب وأذهب إليها متحديًا خوفي وقلقي من المجهول لأباغتها بابتسامة مرتبكة وصوت ينم عما تبديه نفسي من قلق مرحبا .. قلت لها، فترد علي بابتسامتها: (هلا مرحبتين)، فالتقبل جاء بأحسن ما يكون، والقلق وكل ما كان يربكني تبخر.
وهنا بدأت قصتي معها، وبقينا لسنوات نتحدث عن العشق وعن الحياة السعيدة، وعن أملنا بالزواج الذي تأخر بسبب بحثي عن عمل وظروف أسرتي المادية الصعبة التي كنا نمر بها، ولكن ما شأن قلبي بكل ما أمر به؟ ولكنني بالرغم من كل الظروف فإنني لم أستطع أن أمنع نفسي بأن ألتقيها؛ فحرارة الشوق للقاء تسبقنا، وتارة لا أجد مكانا مناسبا لحديثنا الذي لا يمل منه، وضحكاتنا التي لا تكل إلا في أحد مقاهي مسقط الراقية والرائعة؛ لنحتسي كوبا من الشاي، أو القهوة التركية الثقيلة نوعًا ما التي من يومها تحوّل كل مُرٍّ أحتسيه حلوًا يفوق عذوبته كلّ مشروب، ومذاقها أجمل من كل مذاق عرفته معها فقط، وبعد سنوات كنا نعيش قصة رائعة وحقيقية، وكنا نحلق عاليًا بعيدًا عن الواقع المؤلم وأيامنا كانت هكذا عفوية بسيطة ترتاح لها نفوسنا، ولكن كما يقول الشاعر فاروق جويدة:
قدر بأن نمضي مع الأيام أغرابا
نطارد حلمنا..
ويضيع منا العمر يا عمري..
ونحن على سفر
وفي صباح يوم من الأيام كعادتي أتفقد هاتفي؛ لأرد على رسائلها الصباحية التي تجعل صباحي استثنائيًا ليس كأي صباح عرفته؛ إذ بي أرى اتصالات لم أرد عليها بسبب استغراقي في نومي لأتفاجأ بأن يومي ذاك لم يعد كما كان، وهي لم تعد كما كانت، فهي تخبرني بأنها لا ترغب بالتواصل معي، ولا تستطيع الالتقاء بي؛ بسبب أنها ربما سترتبط بزواجها بأحد من عائلتها المدبر لها من والديها وإخوتها، ومنذ أن أغلقت الظروف السعادة بوجهي انسكبت الأحزان بوجهي، وزاد الألم في نفسي؛ لأن صوتها ما زال يتردد في أذني، وصدفة اللقاء في المطار تفتقت عنه الآلام وجروح كانت ملتئمة نوعًا ما، واستقرار عشته بعد سنوات من الٓالام، ها نحن نلتقي مرة أخرى معًا مع سبق الإصرار والترصد بشهادة العيون والقلوب، وأروقة المطار، ولكن الأقدار هكذا هي؛ فلْنعِشْها بكل ما نحمله من حب ووفاء لمن نحب، كما يقول نزار قباني:
لنفترق قليلا..
لخيرِ هذا الحُبِّ يا حبيبي
وخيرنا..
لنفترق قليلا
لأنني أريدُ أن تزيدَ في محبتي ..
أريدُ أن تكرهني قليلا