القرية وما أدراك ما القرية
بقلم / سالم بن محمد بن راشد المعشري
لم أفكر يوماً أنني سأغادر قريتي إلى المدينة ولو للحظة واحدة إلا بعد تخرجي من الثانوية العامة، وذلك بسبب الظروف الاجتماعية التي كانت تكلبني ولم تسعفني في إكمال دراستي.
كنت أتخيل المدينة في ذاكرتي لأني لم أزرها قط، الكل يتحدث عن المدينة ومشاريعها وأنا ألزم الصمت، أتخيل نفسي تطير عنهم.
خرير الماء وزقزقة الطيور، سأشتاق إليها، كثرة الاشتياق لم تكن في الحسبان.
لا أنسى حكايات جدي كل ليلة ومقالبي له تحت ذلك العريش، تعلمت من جدي الابتسامة في وجوه الناس واحترامهم حتى أكوّن صداقات كثيرة، كم أحب صداقة الشيوخ والأدباء، صار عندي كمّ من الصداقات.
القرية وما أدراك ما القرية؟ تراث عريق كم أحب التراث، جدي أيضاً يحب التراث.
أخبرني جدي عن أهمية الحصون والقلاع في زمنهم، جدي لا ينسى ذلك اليوم لأنها بصمة رسمها في مخيلته تبقى وما زالت تجري في عروقه، التاريخ يشهد عليهما.
(جود) من اسمها تحبها، امرأة عجوز تعيش بمفردها لا يوجد لديها أبناء ولكن أبناء القرية هم أبناؤها. تعيش في منزل قرب المزارع ومنزلها أعلى التل، فعندما يبدأ موسم القيظ لابد من المرور إلى منزلها كي تأخذ بعض الشوكلاته منها، والكل يتسارع لأخذ حصته.
لا أنسى المعلم ناصر أيضاً معلم القرآن الكريم، ختمتُ القرآن عنده عدة مرات حينها قال لي: ستصبح إن شاء الله معلماً.
كنت أحلم أن أدرّس القرآن الكريم لأبناء قريتي ولكن الظروف حالت دون ذلك، ولكن الأمل باقٍ فالحلم في ذاكرتي أني حتماً سأعود.
أمي لم تذق الطعام عندما علمت بأني سأرحل عنها أسبوعاً أو أسبوعين، أخي الصغير يسألني إلى أين أنت ذاهب؟ فأجيبه: إلى مسقط.
– هل تذهب بالطائرة ؟- لا بالسيارة.
جارنا الشيخ محمد لا أنسى حلقاته الإرشادية اليومية بعد كل صلاة، كان يقرأ علينا قصصاً وعِبراً من السيرة كم استفدت الكثير منه.
النساء في الحواري يجتمعن تحت شجرة الشريش يحتسين القهوة، ينقلن أخبار الحارة لا يخالطن الرجال، يتقاسمن الحديث بالتساوي حتى لا تظلم إحداهن الأخريات، قد تبدو مهنة يمارسنها كل يوم.
عبدالله ابن جارنا سعيد أنهى دراسته الجامعية ولكنه يبدو بصحة غير جيدة، يقولون أنه صُدم بموقف ما ولا أحد يعرفه سواه، يعمل موظفاً في القطاع الخاص، بداية استلامه الراتب الأول وزعه كاملاً للمدراء والموظفين والكل يتعجب من هذا الموقف، أما عندما يرجع من إجازته السنوية يوزع الحلاوة لجميع الموظفين.
وعندما يحين موعد الإفطار في العمل يتناول فطوره على الأرض والكراسي من حوله تغطي صالة الطعام، لا يحب مخالطة أحد، دائماً تجده يضحك. إشترى ذات مرة سيارة جديدة من إحدى صالات السيارات ولكنه لا يملك رخصة سياقة، أوقفها تحت مظلة البيت حتى تبيض له ذهباً!
الأطفال في قريتنا يحلمون وهم ليسو بنائمين، يرسمون الابتسامة عبر الفجر الطالع كي يلعبوا بماء الفلج المنصبّ في وسط القرية، كان زماناً وما زال غباره يحتفظ به.
ها قد حان الاستعداد للرحلة المتجهة إلى المدينة، خلعت القرية ملابس الفرح وارتدت ملابس الوداع وأنا كما أنا وربما أحلم.
دقائق معدودة تفصلني عن موعد الرحلة، وجدّي كعادته فرش بساطه البني القديم خارج المنزل وينظر إلى الأعلى، ويقول ستمطر بعد قليل.
– لا أعرف ماذا يقصد جدي بكلامه هذا.
منذ متى لم أرَ دموع جدي أظنها جفت، أنظر إلى جدي وهو عابس الوجه، أصعب موقف في هذه الحياة هو الرحيل.
أمي حنين قاتل يراودها، هي لم تصدق أني سأذهب عنها فجأة، تحاول أن يكون حلماً تحلمه وتستيقظ من نومها، أما أنا أشعر أني ولدت من جديد، شعور لا يعرفه غيري، ولادة في الخيال والأخص في الظلمة كم هي صعبة.
سأبرز الليل بالحلم، والشوق بالصبر، والحنين بالذكرى الطيبة، والمرارة بالعمل حتى يرحل عني الليل والشوق والحنين والمرارة.