إذا خانك التعبير فلا يخُنك التفسير
خلفان بن ناصر الرواحي
“إذا خانك التعبير فلا يخنك التفسير”، عبارة مشهورة تنطبق على مجريات حياتنا اليومية، في تعاملاتنا وتفسيراتنا للأمور وفق مرئياتنا القاصرة، حيث تخوننا التفاسير لبعض الأمور ونطلق الأحكام قبل أن نتأكد من مجريات الحدث، أو معرفة المقصود من الكلام أو مصدر الخبر، حتى وإن كان ذلك أيضاً من باب حسن النوايا والتدخل في بعض الأمور كوسيط خير لدفع ضرر واقع أو تجنبه قبل وقوعه، ونتسرع في التفسيرات دون أن نتأنّى ونتبين حقيقة ذلك الأمر، وربما يطول ذلك من نشهد لهم بالأمانة والنزاهة.
فكم من موقفٍ مر علينا في حياتنا اليومية تجرّأنا في إصدار التفسير والأحكام دون إدراكٍ لعواقب الأمور، ولم نعلم أننا كلنا عيوب ولا نسلم من الوقوع في الخطأ ووحل الزلات دون مراعاة لذواتنا وللآخرين، وحينما يقع الفأس على الرأس حينها نلتمس لأنفسنا الأعذار الواهية بعد فوات الأوان.
فلنقرّب مفهوم موضوعنا بهذه القصة كمثال على خيانة التفسير. فقد قرأت عن موقف حصل لأحد الأشخاص وهو يروي قصة واقعية حدثت له، حيث أنه كان يمشي في يوم ما، ومرّ على رجل أمن وهو ينظّم حركة المرور، ورأى بيده قارورة ماء، فأخذها منه، وفي نفس اللحظة كان أحد أصحابه ماراً بسيارته وشاهد الموقف، فإذا بالاتصال منه مباشرة ليعاتبه على ذلك التصرف، ويتهمه بأنه قليل الاحترام لأخذه قارورة الماء من الشرطي وهو الأحوح إليها منه! ويقول له؛ ألا تستحي من أنك أخذت الماء من الشرطي وأنت قادر على أن تشتري من أقرب محل منك.
لكن صاحب القصة يقول تداركت الأمر ولم أناقشه في تلك المكالمة التي كال فيها تفسيره وخانته بديهته لمعرفة حقيقة الأمر مني حتى أخبره بحقيقة الأمر، ووجهت له دعوة لتناول العشاء في أحد المطاعم القريبة لنلتقي وشكرته على مكالمته وقبِل دعوتي. وعندما التقينا على الموعد شرحت له حقيقة الأمر، وأخبرته بأنني أخذت من الشرطي القارورة الفارغة لآخذها لأقرب مكان لرمي القمامة، وشكرني على ذلك، وأنني لم آخذ منه قارورته الممتلئة، فحينها أوطأ صاحبي رأسه خجلاً واعتذر لي على سوء ظنه، فقد خانه التعبير والتفسير معاً، واعتذر لي ووعدني بأن لا يعيد الكرّة.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى
وَ دينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِنُّ
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ
وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ
وعاشِرْ بِمَعروفٍ وسامِحْ مَن اعتَدى
ودَافع ولكن بالتي هِيَ أحسَنُ
فهكذا هي الحياة يجب أن نعيشها كما وصفها الإمام الشافعي رحمه الله في تلك الأبيات الرائعة، ولو أنّ كل فرد منا عاش معانيها مع أسرته، وجيرانه، وأصحابه ومع عامة مجتمعه وكل من صادف في هذا الكون لعاش مرتاح البال، ولم نرَ حينها ما نراه اليوم في عالمنا المعاصر من مشاحنات وقطيعة رحم، وتعدي على حقوق الناس، والبعد عن مراقبة الذات وإصلاح النفس.
لقد فقدنا الكثير من الروابط الأسرية والتكاملية والمجتمعية بسبب سوء الظن، وتفسير الأمور وفق الأهواء، وسادت الأحقاد وكثرت القضايا في المحاكم والجهات ذات العلاقة بفضّ النزاعات، وتفشت القطيعة بين العديد من الأسر، والجيران، ولم يعد البعض يُسلِّم على بعض حتى وإن كانوا يلتقون في مسجد واحد.
فيا للعجب العجاب كيف نأتي للمسجد ونصلي لله وقلوبنا خاوية من السماحة، ومشحونة بالحقد والكراهية وسوء الظن على الآخرين، فإن كان رب العباد يقبل التوبة ويصفح عن عبده المقصر في حقه، فمن نحن حتى لا نصفح ونسامح ونرضي أنفسنا وغيرنا لنرحل ونحن مرتاحي الضمير ونذكر بالخير بعد الرحيل.
يقول تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.[فصلت 34 – 35].
فلنحفظ كرامتنا، ونحترم أهلنا، وجيراننا، وأصحابنا وأصدقاءنا، وكل من نصادف في حياتنا اليومية، لنبقى أنقياء السريرة ويبقى أثرنا في حياتنا وبعد مماتنا.
فهل لنا أن نتدارك الأمور قبل فوات الأوان، ونحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسب، ونتجنب التفسير الذي يغلب عليه سوء الظن ويدعو إلى العديد من القطيعة؟